عودة النازحين إلى... النظام

من خلال إعادة النازحين يوحي بوتين أن الحرب انتهت في سوريا بفضل تدخله العسكري، ولا ضرورة بالتالي لمؤتمرات دولية مع الولايات المتحدة لإرساء السلام في سوريا.

ليس المهم من يعيد النازحين السوريين، المهم أن يعودوا. وليس المهم ما خلفية وسيط العودة، المهم أن ينجح. الهدف يبرر الوسيلة لاسيما أن الخيارات محدودة والوسيلة محمودة. وتاليا، لا بد للبنان من أن يرحب بدور روسي لإعادة النازحين في حال ثبوت جدواه وقدرته على النجاح حيثما تلكأ الآخرون. لكن الخوف، كل الخوف، أن تتسيس إعادة النازحين وتتحول موضوع تجاذب دولي يعقد العودة فيبقون هنا. إن مشروع توطينهم قائم أكثر من أي يوم مضى، وعيب أن ننفيه كرما لهذه الدولة أو تلك.

كل الاتصالات التي أجراها لبنان مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الخليجية اصطدمت بشروط يؤدي احترامها إلى توطين النازحين السوريين لا إلى إعادتهم (انتهاء الحرب، تطبيق التسوية السياسية، تغيير النظام، بدء الإعمار، عودة طوعية واختيارية، الرجوع إلى مسقط الرأس، تأمين المساعدات المالية، تأمين الخدمات الاجتماعية والصحية والتربوية، إلخ...). بتعبير آخر: لا عودة ما لم تصبح سوريا "مونتي كارلو"، ولبنان... سوريا.

منذ سنوات دعوت إلى الانفتاح على روسيا وعدم الاتكال على الغرب وحده. وكتبت في "الجمهورية" مقالتين. الأولى: "روسيا وأبرشيات لبنان وسائر المشرق" (29 نيسان/أبريل 2013)، والأخرى: "جار جديد للبنان" (6 تشرين الأول/أكتوبر 2015). وأخذت تلك الدعوة بعدا واقعيا مع عودة روسيا بجرأة وقوة إلى سوريا والشرق الأوسط، فيما الغرب يتخبط في سياسات أضعفت حلفاءه وشرعت أبواب المشرق أمام إيران.

وإذ رحب لبنان بمبادرة روسيا، ينتظر أن تتبلور بنودها وآلياتها. فجولة الوفد الروسي على سوريا والأردن وتركيا ولبنان، الأسبوع الماضي، ظلت إعلان نيات يفتقر إلى خطة تنفيذية (العدد، الجدول الزمني، الضمانات الأمنية والسكنية، التنسيق المحلي والدولي، شمولية العودة ووجهتها، إلخ...).

إلى الآن، لا تزال المبادرة الروسية عنوانية وإحادية، ولم تطلع عليها الدول الأوروبية والآسيوية والعربية، حتى أن المفوضية العليا للنازحين، المعنية الأساسية، فوجئت بها وتنتظر توضيحات، والسفراء كافة في لبنان يجهلون فحواها. كما أن الولايات المتحدة، الخارجة من قمة هلسنكي، أعلنت عبر وزارتي الخارجية والدفاع عدم استعدادها للتنسيق الأمني مع موسكو حيال هذا الموضوع؛ مع أنه أثير في هلسنكي من دون الدخول في التفاصيل والآليات واللجان.

إذا كانت روسيا تؤثر على النظام السوري وتضمن نسبيا أمن العائدين، فليست قادرة على الحلول مكان الدول المانحة (أميركا وأوروبا وآسيا والأمم المتحدة) وتأمين المستلزمات المادية للنازحين. رغم ذلك، تسعى روسيا إلى إعادة النازحين لأنها تتمسك بوحدة سوريا وتتحفظ عن سياسة الفرز الطائفي التي يمارسها النظام السوري من خلال القانون رقم 10 الذي يسمح بنزع الملكية عن ملايين السوريين تمهيدا لنزع جنسيتهم. لذا، تقدمت ألمانيا وتركيا باسم 40 دولة، في 19 تموز/يوليو الجاري، بشكوى إلى الأمم المتحدة تطالب فيها بإعادة النظر في هذا القانون الذي أقره النظام السوري في الثاني من نيسان الماضي.

تسوق روسيا إعلاميا اقتراحها عودة النازحين علها تفرضه أمرا واقعا على المجتمعين العربي والدولي، فتحقق في سوريا إنجازا ديبلوماسيا ذا طابع إنساني بعد انتصارها العسكري ذي البعد الاستراتيجي. فمن خلال إعادة النازحين يوحي بوتين أن الحرب انتهت في سوريا بفضل تدخله العسكري، ولا ضرورة، بالتالي، لمؤتمرات دولية مع أميركا لإرساء السلام في سوريا: إنه قائم. وأصلا، تتصرف روسيا بعد قمة هلسنكي كأنها هي من يدير اللعبة في الشرق الأوسط. فما أن انتهت القمة بين ترامب وبوتين حتى قام وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ورئيس الأركان الجنرال فاليري غيرسيموف بجولة على إسرائيل وفرنسا وألمانيا لإطلاع قادتها على نتائج القمة، فيما كان على واشنطن أن تقوم هي بذلك.

هكذا، بحضور عسكري وازن ودور ديبلوماسي ذكي، تواصل روسيا تموضعها في الشرق الأوسط. ويأتي وضع يدها على قضية النازحين خطوة متعددة الأهداف:

تصبح روسيا مرجعية حل لثلاث دول تنوء تحت عبء النزوح السوري: تركيا والأردن ولبنان، وهي دول صديقة لواشنطن أكثر مما لموسكو. ففكرة تأليف لجان ثلاثية تدخل روسيا إلى المناطق السورية الشرقية الشمالية حيث تسيطر أميركا وتركيا وحدهما. لكن هذه الفكرة تصطدم بقرار الكونغرس الأميركي الذي يمنع التعاون المشترك مع موسكو منذ أن انتزع بوتين شبه جزيرة القرم من أوكرانيا سنة 2014.

تصبح روسيا المحاور الممتاز لدول الخليج، وبخاصة للسعودية، في مسألة مصير السنة السوريين. فعودة النازحين هي عمليا عودة السنة إلى سوريا لأن 90% بين النازحين هم من السنة.

تأمل روسيا من خلال التزام إعادة النازحين خرق العقوبات الأميركية والأوروبية ضدها والاستحصال على "أموال العودة" وصولا إلى مساعدات تشمل إعادة الإعمار. لكن الإدارة الأميركية جددت حزمة العقوبات على موسكو في آذار الماضي والاتحاد الأوروبي جددها في 15 تموز/يوليو الجاري. أكثر من ذلك، يوجد قرار أميركي بعدم تمويل الإعمار في مناطق سيطرة النظام السوري كشف عنه وزير الخارجية السابق ريكس تيلرسون في محاضرة ألقاها في مؤسسة هوڤر التابعة جامعة ستانفورد في 17 كانون الثاني/نوفمبر 2018.

تتوقع روسيا أن تسمح إعادة النازحين، منذ اليوم، بتحضيرهم النفسي والسياسي لإعادة انتخاب بشار الأسد في الانتخابات المقررة سنة 2021. فالنازحون العائدون ناخبون سوريون يعول النظام على استيعابهم ليصبح ذا صفة ميثاقية.

مع مشروع إعادة النازحين، تعطي روسيا دورا جديدا لوجودها العسكري في سوريا، وتشيح عن الوجود العسكري الإيراني الذي تطالب بإنهائه أميركا وإسرائيل. وفي هذا السياق، تلتقي مبادرة روسيا مع مبادرة حزب الله حول النازحين، إذ تهدف ضمنا إلى خلق مبرر آخر لإبقاء عناصر الحزب في سوريا. المبرر الأول كان حماية شيعة "القصير"، الثاني كان مواجهة الإرهاب التكفيري، وها الثالث: إعادة النازحين.

مهما كانت أهداف روسيا وأمنياتها، تبقى مبادرتها الوحيدة من دون شروط والأقرب إلى منطق طرح لبنان. ومعيار نجاحها هو مدى تجاوب النظام السوري معها، فتحصل روسيا منه على: ضمانات أمنية جدية للعائدين، إلغاء القانون رقم 10 حول الملكية، وإصدار عفو عن النازحين المتخلفين عن الخدمة العسكرية. وحينئذ يبدأ البحث الجدي.