"غيوم فرنسية".. رواية نساء الهويات المنسية

رواية "غيوم فرنسية" للكاتبة ضحى عاصي اشتغال جديد على أحداث من التاريخ.
أن تكتب عن التاريخ، لا يعني أن تنقله كما حدث أو تتقيد بشخصياته وأحداثه
"غيوم فرنسية" روايات في رواية، فكل شخصية من شخصيات هذا العمل تستحق أن ترى عنها رواية

فكرة كتابة التاريخ روائياً، ليست بالأمر السهل، فالكاتبة والكاتب عليه أن يمتلك ثقافة واسعة، الإلمام بالعصر الذي يستهدفه المام المتخصص. دقة اختيار للموضوع حتى لا يتشعب وتفلت خيوط الحبكة من بين أصابعه. من شخصيات إلى حيز زمني ومكاني ثم اختيار الزاوية التي سيسلط ضوء حكايته منها. اختيار ألاعيب مبتكرة للسرد؛ من تنوع أصوات الرواة، إلى سرد، تنامي الأحدث، ووصف الأمكنة وما يجول في أعماق شخصياته.
أن تكتب عن التاريخ، لا يعني أن تنقله كما حدث أو تتقيد بشخصياته وأحداثه، بل أن يكون خلفية ليس إلا، كما يصنع الرسام بلوحاته. خلفيه لتاريخ متخيل تصنعه مخيلتك، شخصياته من المهمشين، لتنقل أثر أحداث جسام على المجتمع من خلال الفرد، وتنسج تاريخا اجتماعيا لم يحدث ولم يتخيله غيرك. أن تكتب ما لم يكتب. كثيرون يعرفون بأن ما هو مدون فيما يسمى بكتب التاريخ ما هو إلا سير للطغاة، وتاريخ للمنتصر يتقرب به من يكتبونه بالتهويل والتزييف.
الرواية التاريخية هي ما ينقل كاتبها مما جاء فيما يسمى بكتب التاريخ، إيمانا منه بصدقها وعظمتها، مثلما هي روايات باكثير وجرجي زيدان. أما الرواية المتخيلة لتاريخ مفترض فمختلفة، كما صنع محمد المنسي قنديل، وأمين معلوف، ورضوى عاشور، وسلوى بكر، وغيرهم من الروائيون المعاصرين ممن اتخذوا من أحداث وشخصيات بعينها مادة لبعض أعمالهم الروائية، لينسجوا من مخيلتهم ما قرأناه من فن. قد  يستدعي البعض حادثة تاريخية أو شخصية حقيقة، ليسقط الحاضر وما يعتمل فيه، إيمانا منه أن التاريخ يكرر نفسه.
رواية "غيوم فرنسية" اشتغال جديد على أحداث من التاريخ، وزادت تلك تفاصيلها  الكثير من المعارف، لتصنف بالرواية المعرفية، غاية في التشويق بوصفها الباذخ، وبوح شخصياتها الذي جعلها أكثر فهما للمتلقي. إضافة إلى تداخل ثقافات عدة لتتماهى الهويات. ما جعلها أقرب إلى مشاهد متلاحقة لفيلم سينمائي، لحياة مجتمع يعيش صراعا دمويا، حين تسفك الدماء وتحرق المساكن والمنشآت وتنهب الممتلكات. ليس لشيء إلا لاختلاف الدين. هي سياسة من المتسلطين من الممالك العثمانية، لجعل المجتمع منشغلاً عن بطشهم وتسلطهم. وهو ما يحدث اليوم باسم الدين، ليس في قطر بعينه، بل بموجات دموية تلف الكرة الأرضية، فكل دين يكفر الآخر، وكل مذهب لا يرى في غيره إلا مارقا وضالا وعليه بقتالهم.

الكاتبة قدمت مجتمع الرواية بتنوع ثقافته وعقائده؛ بين الفرنسي والمصري والمملوكي، بين المسلم والأرثوذكسي والكاثوليكي، بين الثائر على الدين الداعي لجمهورية من الإخاء والمحبة والحرية، إلى المتمسكين بمكتسباتهم من طبقات النبلاء والإقطاع

"غيوم فرنسية" روايات في رواية، فكل شخصية من شخصيات هذا العمل تستحق أن ترى عنها رواية. لقد نسجت الكاتبة مسارات لحيوات تلك الشخصيات بخصائص مدهشة، لنتساءل هل هذا العمل هو رواية المعلم يعقوب؛ تلك الشخصية المختلفة في رؤاها ونهجها وتعاملها مع رجال كل  سلطة على مصر من مماليك وفرنسيس، إلى مسلمين وقبط؟ أم هي رواية أبينا عبدالملك الشفتشي، ذلك النجار الفنان الذي أتقن نحت الخشب وتحويله إلى قطع أثاث يمتاز بزخرفة كقطع فنية الباحث في جذور الاختلاف المذهبي القبطي الكاثوليكي، في محاولة لإيجاد بدايات الفرقة، محاولا معالجة ذلك الشرخ المزمن. مؤلف أكثر من كتاب في اللاهوت، مدون ما لاحظه في أثناء إقامته في فرنسا، من طبائع البشر واختلاف الفهم ودراجات الوعي، وتأثير الثورة على مستقبل الدين، وهو الحكيم في تعاملاته مع محيطه، الأمين الذي يأمنه الجنرال يعقوب على زوجته وابنته، وسندات بملايين الفرنكات على الخزينة الفرنسية، سلمها قبل وفاته على السفينة التي حملتهم من مصر إلى مرسيليا، والمؤتمن على قلب محفوظ في قالب من الكريستال، سلمه له زميله الفرنسي لوسيان قبيل توجهه لجبهة القتال. لا يملك المتلقي إلا أن يعجب بسيرة تلك الشخصية. 
أم هي رواية فابيان، القائد الدموي الملم بقواعد وفنون الحرب، بعيد النظر، الثائر. أو حكاية جين "سعيدة" العائدة إلى وطنها فرنسا بعد عشرين سنة من الاستعباد، قضتها متنقلة كجارية في بيوت العثمانيين في القاهرة. لقد قدمت الكاتبة هذه الشخصية ككائن فقد ذاته وهويته، فلم تعد مسيحية ولا مسلمة، فرنسية أو مصرية، كائن خاوي وغريب عمن حوله، دون كرامة أو قيم، تائهة تتلمس الخلاص بعد سنوات من التيه والضياع. 
زهرة أو "مدام دو بورجون" ابنه الشيخ العطيفي. من عاشت غربتها بعد حريق التهم دارهم ضمن منازل حي بولاق في القاهرة، لينقذها ضابط فرنسي الكونت: رينيه، ثم يتزوجها وتغادر معه إلى فرنسا، لتعيش بعد وفاته غربتها كأرملة، تسكنها ذكريات حواري صباها، تحلم بالعودة يوما إلى أحياء القاهرية، لكن. 
الكونتيسة فرانسواز أم رواية مغنية الأوبرا والثائرة ماري فالكور. أم أنستازيا؟ 
هي رواية كل تلك الشخصيات وشخصيات أخرى، شكلتها الكاتبة في أنساق متوازية تارة وأخرى متقاطعة، لتحكي حكاية ثورة فرنسا، تلك التي أشعلت مشاعل الحرية والعدالة في جميع أركان الأرض. صعود بونابرت ثم سقوطه بعد تحوله إلى ديكتاتور، وهي رواية الصراع العالمي على النفوذ والمصالح بين انجلترا وفرنسا من جهة، وبين فرنسا والدولة العثمانية. وبين فرنسا وروسيا. 
إلا أني أراها رواية فضل الله العسال وحبيبته محبوبة. أحداث توالت منذ قرون كان نتاجها مصر اليوم. تفاصيل بسيطة تجمعها الكاتبة لتشكل منها تحولات شخصياتها. ناسجة ملحمة من الزخم الإنساني الممتع، لأحداث كان لها الأثر الكبير على مصر والشرق بل وأوروبا.
ونعود إلى شخصية الرواية الرئيسي "فضل الله" شاب يعمل في منجرة أبينا عبدالملك، يتزوج من "محبوبة" ابنه جرجس غزال. تلك الفتاة التي أحبته بكل جوارحها وأخلصت له. فضل كبقية الأقباط ممن كان يمارس عليهم منهجية التحقير "شمل يا نصرني" فلا يحق لهم حمل السلاح، أو ركوب الدواب، وفوق ذلك يتعرضون بين سنة وأخرى للتنكيل والإبادة في "عكسة" بعد أخرى، ككفار يحل للمسلم دماؤهم وأموالهم متى يشاء وفي كل مكان. تلك المذابح ضمن سياسة المماليك العثمانيين بهدف إدخال المجتمع المصري في دوامة من العدوات الدموية،  ليخلى له الجو، لتدخل فرنسا مصر، ضمن الصراع على الشرق، وهنا وجد الأقباط حليفا يدعمهم، ليشكلوا بقيادة المعلم يعقوب فيلقا من الأقباط يحارب ضمن جنودهم. 

novel
مثلت محبوبة 

يلتحق فضل الله ضمن تلك القوة رغم معارضة زوجته محبوبة، ولم تمض أشهر حتى انتصرت انجلترا على فرنسا، لتفرض عليها الانسحاب وتسليم مصر للعثمانيين. هنا غادر فضل مصر ضمن من غادروا مع الفرنسيين. تاركا زوجته محبوبة. وقد التحق ضمن قواتها وشارك في حروب عديدة، لصعد نجمه، ويترقى حتى وصل إلى قائد كبير. 
بعد عشرين سنة من اشتراكه في معارك فرنسا تنتهي حياته في إحدى جبهات قتال روسيا، ضمن مئات الألف من  الجنود الفرنسيين. مات دون أن يفكر يوما بالسؤال عن محبوبة، ودون أن يعلم أنها خلفت ولدا أسمته فضل الله، لتنتهي الرواية بزيارة  قائد فرنسي  لمحبوبة، كان يعمل ضمن قيادة زوجها. وقد استدعاه محمد علي باشا لتكوين وتدريب جيشه. يزور محبوبة بهدف ضم ابنها الذي قارب عمره من العشرين سنة إلى الجيش الجديد.  
قصة فضل الله ومحبوبة، هي روح الرواية، وعمودها السردي، مع ثيمات عديدة، منها: صراع سكان مصر من مسلمين ومسيحيين، وصراع أوروبي أوروبي على مصر والشرق. آمال استقلال مصر، قصص الحب بين زهرة ومنصور، ملاحقة انستازيا لفضل الله.
بالمقابل مثلت محبوبة رمزا من رموز الوفاء، بعد أن تركها زوجها وغادر بعيدا. حتى أنه طيلة بعاده لم يكلف نفسه بالسؤال عنها وعن أوضاعها. وهي التي عاشت على صدقات أهل الملة بعد وفاة والدها. محبوبة صورتها الكاتبة كقدسية، محبة لوطنها. رافضة أن تغادره كما غادره زوجها فضل. رغم ما صنع بها المماليك من تعذيب، وصل حد خوزقتها. ذلك الفعل الشنيع والبشع الذي وصفته الكاتبة، حين يتفنن الإنسان في تعذيب الإنسان. إلا أنها ظلت ذلك الكائن المخلص لوطنها، كرمز  تمثل مصر بصفات لا يمتلكها كثير من البشر، فهي مثال للنقاء والإيمان والمحبة والعطاء.   
أفسحت الكاتبة لشخصياتها أن تحكي حيواتها، ومشاعرهم ورؤاها، ومفهومها للوجود وللعلاقات مع من حولهم. فالراوي العليم أخذ مساحة 11 جزءا من أجزاء الرواية الأربعين. وبعض الشخصيات مساحات متفاوتة، مثل فضل الله الذي سرد 14 جزءا. وأبونا عبدالملك 8. ومنصور حنين 4 أجزاء. بينا مصطفى وجين وفرانسواز سرد كل منهم جزءا واحدا. 
ذلك التنوع أضفى على مسارات الرواية حيوية وتجددا رائعا. إضافة إلى مرونة الانتقال بين الأزمنة والأمكنة. إذ يرى المتلقي ما يدور بعيون تلك الشخصيات.. ويسمع بمسامعها. ويتلمس ما يعتمل بمشاعرها وآمالها وكبواتها. 
قدمت الكاتبة مجتمع الرواية بتنوع ثقافته وعقائده؛ بين الفرنسي والمصري والمملوكي، بين المسلم والأرثوذكسي والكاثوليكي، بين الثائر على الدين الداعي لجمهورية من الإخاء والمحبة والحرية، إلى المتمسكين بمكتسباتهم من طبقات النبلاء والإقطاع.
مجتمع الرواية يزخر بمزيج من الحالات الإنسانية التي يجد المتلقي نفسه في خضم حيواتها المتداخلة، وعواطفها الجامحة، يحزن لأحزانهم ويتطلع لتطلعاتهم. 
هكذا استطاعت الكاتبة تجاوز رتابة الصوت الواحد، وتقريرية الأحداث التاريخية. إلى فضاءات من الألاعيب السردية المدهشة.