"الكراكي".. محاولة تمرد في المدينة الفاضلة

رواية حسن حميد تحاول التمرد على الشكل التقليدي ولو في جزيئة محدودة.
التجريب على طريق أن يكون للكاتب بصمته، وما يضيفه، وهذا ما يشغل  فكر كل مبدع
لو أزيلت العناوين الذيلية الصغيرة لما تغير في الأمر شيء

مدخل:

الرواية أفق يتجدد سنة بعد أخرى. والمساهمة في تطورها إضافات تحسب لبني البشر من مختلف القارات، وإن ظن البعض بأنها بنت القارة الأوروبية، أو ادعى آخر بأن جذورها شرقية، مخصصا الفضل لشعبٍ بعينه مستدلا بالعديد من النصوص الحكائية القديمة. 
أجزم بأن تطورها ذات جذور شتى وأن برزت حاضرا بشعب ما. مثل أن يقال بأنها أوروبية. قد يحمل ذلك شيئا من الصواب أو أن نعود لألف ليلة وليلة أو حكايات هندية أو صينية. كل منها يقترب من الصواب وليس كل الصواب، فقد يحسب لشعب من الشعوب نصيبا أكثر من غيره في تطورها. لكن أن يقال بأن ما أسهمه هو كل التطور. فهذا غير صحيح. إذا الرواية اليوم، وما ستصل إليه غدا هي صنيعة كل الشعوب. 
تمرد:
تمهيدي القصير أتى بعد قراءتي لرواية "الكراكي" لحسن حميد. الرواية التي حاول التمرد من خلالها على الشكل التقليدي ولو في جزيئة محدودة، التقسيم المتشظي، إذ لم يكتف بالستة وعشرين قسما أو فصلا، بل ذهب إلى إضافة في ذيل كل قسم بعدة عناوين: استدراك أول.. استدراك ثان وثالث ورابع.. الخ، ولم يكتفِ مضيفا بعد الاستدراكات، عناوين الهامش الأول. الهامش... الخ. تلك الاستدراكات والهوامش  ضمن المتن، ولا يختلف في حجم الحرف عن بقية أسطر الرواية. ونسق الأحداث ظل في تصاعد من المتن إلى الاستدراكات المتتالية نهاية بالهوامش التي ليست هوامش منفصلة.  فهل ذلك التشظي ضرورة فنية.. أو ذا طبيعة يخدم الموضوع. في واقع الأمر هو محاولة للتمرد على الشكل، خاصة وأن سياق السرد ظل في تصاعد عبر المتن والاستدراكات والهوامش. ولو أزيلت تلك العناوين الذيلية الصغيرة لما تغير في الأمر شيء. هي محاولة تحسب للكاتب وقد تفتح أفقا لما هو أبعد؛ أن توحي لكتاب آخرين لخطوات أكثر في حبكة وبناء النص. ما يقودنا إلى قراءة الرواية قراءة تفاعلية، على يقين من أن تلك العناوين التذييلية جاء بها الكاتب من باب الخروج عن المألوف كما ذُكر سابقا. وحتماً جاءت بعد تفكير مطول، خلالها طرأت عدة أفكار، وأكثر من شكل لتقسيم عمله. ولنا أن نتخيل ما طرأ على تفكيره من تلك التقسيمات، ليختار ما هو بين أيدينا في نهاية الأمر. والسؤال ماذا لو جاء بغير ما هو قائم. هل كان سيتغير في مضمون الرواية شيء. ولنا أن نتصور تلك التغيرات وما ينتج عنها فنياً. 
إذا هو التجريب. على طريق أن يكون للكاتب بصمته، وما يضيفه، وهذا ما يشغل  فكر كل مبدع، أن يحسب له تغيير ما وتجديد يستحسنه الآخرون، ويلهمهم إلى ما هو أبعد. 

بلاد ستعرف مطاردات كثيرة، ولكنها ستظل مطاردات فحسب، وإن غمرها الزمن بالأيام والسنين، وإن جاءت بالكوارة والأذيات والحرمان والقهر

تفاعل:
يبدأ الكاتب بوصف صندوق عتيق توارثه أكثر من أربعين جد أو جيل، دون أن يجرؤ أحد على فتحه خوف لعنة ما، ليأتي حفيد معاصر، يجرب مجموعة من المفاتيح ورثها، لكنها لم تفلح "لذلك تجرأت وكسرت قنطرة القفل...". وجد عملات وحلي وتحف، تمثل ثروة، ومن بينها كتاب. يذكر الراوي "وقد فرحت بها جميعاً.. لكن فرحي الاكبر كان بهذا الكتاب الذي يتحدث عن الحياة التي عاشها جدي الياس الشمندري". ومع بداية فصل بعنوان "تصدير" أخذ يقرأ: "قال جدي إلياس الشمندري: أنا لم أرَ سيدي هنا في طبريا.. كنت صغيرا آنذاك.. ولم أعرف عن حضوره شيئا.. إلا عندما كبرت...".  
من ذلك نعرف أن إلياس هو مؤلف ذلك الكتاب القديم. وإذا أردنا معرفة زمن ذلك المجتمع علينا بحسبة بسيطة، فنحن في العام 2020. وهناك أكثر من أربعين جد أو جيل منذ تأليف ذلك الكتاب، فإذا أعطينا معدلا وسطيا 20 سنة لكل جيل، وأكتفينا بالأربعين سنعرف بأن إلياس قد عاش في حدود العام 1200. وبالتالي فعمر الصندوق وما يحتويه أكثر من 800 عام. 
ذلك الصندوق ظل سليما، لخوف ورثته من لعنة ما تحل على من يفتحه. لنتساءل ماذا لو أن الكاتب أعطى مساحة حول صحة اللعنة من عدمها على ذلك الحفيد الذي تحدّى وكسر مغالق الصندوق. ويمكننا أن نتخيل حكاية تتطور في نسق معاصر، لنتخيل اللعنة التي حلت على اعتبار أننا أمام رواية تجنح في مجملها للفنتازيا، وتغليب سطوة الماضي، لتنقلب اللعنة إلى نعمة بتوفر تلك الثروة.
ابتكار الكاتب كتابا قديما، تقنية نجح في تقديم من خلالها عوالم ساحرة لمجتمع يبدو غريبا في علاقاته وشخصياته، ما يدعونا إلى البحث عما يمكن لن يحدث في ذلك الزمن. أي أن نحاور الكاتب من خلال إطلاق أخيلتنا حول ما تخيله من أشخاص وأحداث محددا أفق المكان بالشام، ليس بمعنى دمشق كما توصف اليوم، بل بالشام  سوريا الكبرى، قبل تقسيمها حسب  نفوذ الاستعمار الفرنسي البريطاني بعد هزيمة الدولة العثمانية. وإن أشار الكاتب إلى أن ماريا قد ذهبت وصويحباتها باتجاه الشام، بما يعني دمشق التي لا أظن أن هذا المصطلح كان قد عرفت به في ذلك الزمن، لكني لست على يقين. فضاء المكان إذن واضح: بحيرة طبريا، صبيرة القرية محور جل أحداث الرواية، التل، إلى بحر لوط، وبلدة طبريا، والناصرة، والقدس، وحيفا. 
إذن الفضاء المكاني واضح، فضاء الشام. وإن كانت تلك المدن والبلدات في إطار فلسطين. يقابله ضبابية الفضاء الزماني الذي  يكتنفه الغموض. فلا إشارة لنظام أو حاكم، أو حدث مفصلي في تاريخ تلك الجغرافيا. لنتساءل حول من يكونون أولئك الجنود الشقر الذين وقفوا أمام العابرين يطلبون تصاريح، وممن التصاريح، قد يقول قائل إن أولئك الشقر هم اسرائيليون، لكن الاحتلال الإسرائيلي معاصر. أم أنهم  بريطانيون. أيضا بحسبتنا للأجيال، الصندوق لا ينطبق على زمن تواجدهم. فهل هم صليبيون. وهل في زمانهم كان هناك تصاريح.
نجح الكاتب في ترميز الصندوق بغموض زمانه، وكذلك  ذلك المجتمع، في هذا يمكن لكل متلق أن يقرأ هذا الغموض وأن يرمز حسب ثقافته ومعارفه. العمل الذي يقود إلى تعدد القراءة، عمل فني باتع.
بعض المسميات مثل الجنود الشقر، سيارة وحيدة في قرية، عملات ورقية، ليرات ذهبية ضمن محتويات الصندوق، تلك وغيرها تذكرني بذكري في إحدى رواياتي أن أحد الشخصيات كان مولعا بتدخين التبغ. في الوقت الذي لم يكتشف بعد العالم الجديد الذي انتشر منه - بعد وصول كولمبس إليه - التبغ إلى القارات القديمة. تلك الرواية كانت تحكي عن مجتمع عاش القرن العاشر في جنوب الجزيرة العربية.
ظهور السيارات والعملات الورقية، يبذر الأسئلة وقد نجح الكاتب في بذر مزيد من الضبابية.  

novel
النهايات المفتوحة لشخصيات الرواية تطرح مزيدا من الأسئلة

حيلة فنية:
إذا هناك صندوق متخيل بقدمه، متخيلة محتوياته، كحيلة فنية. وما يهم الكاتب هنا هو كتاب يتكئ عليه ليحكي ما دونه الجد البعيد، حول حياة مجتمع قديم. هنا يبرز لنا مؤلفون، مؤلف خارجي هو حسن حميد. ومؤلف داخلي هو الجد البعيد، الخارجي مهمين، أي أن الكاتب المهيمن هو من ابتكر كاتب قديم بمؤلفه. نعرف بأنه متخيل ولدواعي فنية. يريد المؤلف الخارجي أن نتعامل معه على أن المؤلف الداخلي شخص حقيقي. ذلك الكاتب الجد الذي كتب عن حياته وحياة مجتمعه الذي لا نستطيع بالدقة تحديد زمانة. وقد نجح الكاتب في ترك المتلقي يتخيل ذلك الحيز من الزمن. وهذا دعوة للتفاعل بمزيد من المسارات السردية التي لم يفكر بها الكاتب.
قد يضع المتلقي نفسه محل الحفيد الذي لم يخش اللعنة، وتجرأ على كسر أقفال الصندوق. ليطلق – المتلقي - خياله مصورا لهفة الحفيد بعد حصوله على ذلك الكنز، منجرفا  لغواية المال، ويهمل الكتاب. ليفكر في خطط الغد وماذا سيصنع بكل تلك الثروة. محلقا نحو حياة معاصرة ملؤها السفر والمغامرة وما تعترضه من إخفاقات ومؤامرات. 
هل تخيل الكاتب أن في محتويات الصندوق أشياء قديمة عديمة الفائدة، عدا ذلك الكتاب الذي مثل كنزا حقيقيا بما يحتويه.   
أنا أتخيل أنه فكر بأكثر مما نطرح، وبكل منحنى يقود إلى مسارات سردية أخرى. وقد تصور كل شيء يحتويه الصندوق. وأن سيطرت عليه إيجاد حيلة لتقنية سردية جعلته بصفته كاتبا يجعل كل شيء يخدم ظهور كتاب قديم، وذلك ما يهمه وإن كان المال ليس هامشا عند المغرمين بالكتابة. 
بالفعل أختار الزمن الغامض مستدعيا حياة ذلك المجتمع، ليحاكم الحاضر، ويدع المتلقي يشاركه بديناميكية التفاعل التخييلي.
ذلك المسار مدهش بعوالمه التي تجلت في سجايا شخصياته الأقرب إلى البراءة. مجتمع ما قبل الكنيسة، ثم بحلول الكنيسة، حيث تلك الحشود من الغجر الجوالة  استمرت من قرية إلى أخرى. يستقبلها السكان بفرح وبشر منقطع النظير. تمتزج الحكايات بالأساطير، وما يخالطها من حب وتعايش. وكأنها سجية وجوهر مجتمع ملائكي، مصورا عكس ما عُرف عن الغجر، ومن نفور المجتمعات عبر التاريخ لجحافلهم. وما يصنعون من ممارسة للسرقة، وحياة الابتذال لنسائهم، وحياة الغش ... الخ. هنا نجح الكاتب في تقديم المجتمع بشقيه الثابت والمتحرك دامجا بحس إنساني مشاهد أسطورية غاية في الإنسانية. 
رغم  ذلك التحول المتمثل بالأب طنوس بعد بناء الكنيسة، ليصور الكاتب المجتمع الفاضل بنقائضه. فجميع الشخصيات سوية، ولا توجد بينهم شخصية مركبة. فالأب طنوس ظل مثالا لرجل الكنيسة الراعي للجميع. وماريا من ظهورها وحتى اختفائها ملاك في صوة امرأة. هدلة بطيبتها  التي لم تتغير وتلك اللهفة على الجميع. براءة عبودة التي تصل إلى مستوى السذاجة التي توحي بإصابته بإعاقه ذهنية. يحيى مبروك القرية. العجوز صاحب الصوت المفرد "الخال". فضة، الزهروري، قدورة ... الخ تلك الشخصيات التي ظلت بنفس طبيعة ظهورها وحتى نهايتها، وكأنها سلبت من رغبات التملك والتسلط. وجاء الطائر الذي أخذت الرواية عنوانها منه بنفس خصائص الشخصيات ليتماهى مع مسار إرادة الكاتب لشخصياته حتى الطير.
لنتساءل لماذا رسم الكاتب تلك الشخصيات بمسحة ملائكية. ماذا لو أن الأب طنوس مارس وهدلة ما يمارسه عاشقان. مارية تواعد آخر في دهاليز الكنيسة  ليمارسا رغائبهما. ترى كيف سيكون مجرى الأحداث. هل ستتأثر  تلك العلاقات في ذلك المجتمع الأبيض، متخيلين أحداثا جديدة يمكن أن يعمل كل متلق خياله لتطويرها. 
إن ثراء عوالم الرواية وغرائبية طبائع أفرادها، تدفع المتلقي لأن يعمل خياله متفاعلا كشريك للكاتب الذي نجح في أن نتصور هذه الرواية رواية تفاعلية، يمكنها أن تحمل مزيدا من التخييل.

البلاد ستظل لأهلها، وإن ادلهمَّ ليلها ولن يكون وجود الغرباء فيها حضور، مهما امتد، سوى لحظة تشبه رمشة الهدب

شتات:
ملمح فني آخر تمثل في تعدد الرواة، فبالإضافة إلى صوت المؤلف الداخلي، كان هناك أكثر من راو ضمني. فـ "هدلة" تروي وان كانت مساحتها محدودة. والزهروري روى عدة فصول حول معاناته في البحث عن "فضة". وكذلك يحيى المبارك روى. تلك الأصوات منحت السرد حيوية والكثير من التشويق.
وقبل النهاية؛ نتساءل هل ما بين يدينا رواية تاريخية لمجتمع متخيل، أم أنها وصفية، حيث تجلت قدرة الكاتب ببذخ الوصف اللافت، إضافة إلى إمكانياته اللغوية المدهشة. رواية يمكن أن ندرك متعتها وتعدد إدهشاها، ما يدفع المتلقي للتفاعل والتخييل الموازي.
ما تحمله "الكراكي" من وصف، تذكرنا بروايات إبراهيم الكوني وعوالمه الصحراوية.. وصف واسيني الأعرج لمجتمعات المورسكيين. تفاصيل خالد خليفة في لم يصل عليهم أحد. عبده خال في الموت يمر من هنا. لغة محمد علوان في موت صغير.. وكذلك رجاء عالم في خاتم... الخ روايات دسمة بالغتها ووصفها.
 ملمح موضوعي تمثل في قصص الحب الناقصة، كثيمات لم تكتمل. بداية بغرام عبودة وماريا، ظل يشغل جل صفحات الرواية إلا أن الحكاية لم تكتمل، ثم الزهروري وحبه لفضة، هام دون أن يجدها، كذلك الفتاة ريا وعشقها بذلك الكائن الذي صور الكاتب المعشوق سراباً. جميعها عاشق يلاحق آخر والآخر يختفي ولا يظهر حتى النهاية.
آخر الأسطر يتوه عبودة باحثا عن عروسه ماريا التي لم تزف إليه، في الوقت الذي  خرجت هدلة باحثة عن زوجها عزيز الغائب منذ غادرها قبل ثلاثين سنة، وأيضا لا تعود. الأب طنوس يموت. يحيى المبارك يختفي، ولا يستدل إلى مصيره أحد، وإن وجدوا بقايا متاعه ليظنوا بأن الوحوش افترسته. تلك النهايات المفتوحة لشخصيات الرواية تطرح مزيدا من الأسئلة.
إذا كان المؤلف المتخيل لكتاب متخيل هو إلياس الذي سمته أمه هدلة عبدالله، وعرف بعبودة حتى يرجع والده ليسميه ما يريد. لكن من أين له كل تلك الثروة من المجوهرات والتحف والحلي والمسبوكات، وقد عاش ووالدته فقراء. تلك وتساؤلات أخرى عادة ما يبذرها العمل الروائي المختلف. وعند بحثنا عن أجوبة لا ننتظر الرواية أن تجيب. بل علينا أن نبحث ونحلل. 
إذن سنعود لنجتزئ جملا قليلة من الصفحات الأولى للرواية حين يتحدث الجد الأول في كتابه "وقال لمن حوله: إنها بلاد ستعرف مطاردات كثيرة، مثل المطاردات التي يتعرض إليها. ولكنها ستظل مطاردات فحسب، وإن غمرها الزمن بالأيام والسنين، وإن جاءت بالكوارة والأذيات والحرمان والقهر. وان هذه البلاد ستظل لأهلها، وإن ادلهمَّ ليلها ولن يكون وجود الغرباء فيها حضور، مهما امتد، سوى لحظة تشبه رمشة الهدب" .
فهل عادت هدلة بعزيز زوجها ليسمي ابنه إلياس. وإن عاد فهل عاد بثروة من غيبته كما كان يشاع؟