"البئر" دماء تشكل وجه عدن!

رواية محمد مسعد العودي تشير بفنية عالية إلى مكامن الخلل والجبروت، حين يمارس السياسي قتل الإنسان ومسخ موروثه.
"البئر" تعري ما يدور في جنوب شبه جزيرة العرب لما يقارب خمسا وسبعين سنة
العودي تفوق في فضح الساسة الذين يديرون أمورهم بأسلوب قادة العصابات

سبق أن قرأت للروائي المتجدد محمد مسعد العودي أكثر من عمل روائي ونقدي. ومن عمل إلى آخر أجدني متسائلا حول مدى قدرته على تقليب مكعب الحكي، ليرينا أوجها لم نرها في محيطنا الوطني. نادرا ما نجد من يكتب مكانا غير مجتمعه؛ فمحفوظ والكوني ومينا وشكري... والقائمة تطول، قدموا للقارئ في مجمل أعمالهم إيقاع وصخب مجتمعاتهم. وكاتبنا عمل بعد آخر يقدم تلك البيئة الجبلية التي ولد وتربى فوق قممها، لنتعرف على قسوة تلك الجغرافية، ولين سكانها، مقابل رعونة ساستها وتسلطهم. وقد صنع تلك الفجائع التي شوهت وجه عدن، وكأنهم خلقوا للتسلط والقهر. هكذا تعري "البئر" ما يدور في جنوب شبه جزيرة العرب لما يقارب خمسا وسبعين سنة.
صور الكاتب السياسي الذي يمارس التنكيل والتدمير كسياسة، مالئ الدنيا بضجيج شعاراته. يفرخ الجلادين، أو أنه رسل الجحيم، لا هم لهم سوى تجويع المجتمع وتدمير موطنه والعبث بإنسانيته.
الرواية تشير بفنية عالية إلى مكامن الخلل والجبروت، حين يمارس السياسي قتل الإنسان ومسخ موروثه، بل ووصلت أعمالهم إلى استهداف كرامته وثقافته في محاولة لطمس تاريخه. تلك هي الصورة التي مارسها السياسي منذ عام 1967 ولم ينجر إلى أنهر من دماء، وفيض من الشعارات: ماركسية.. ماوية.. لينينية.
رواية كاشفة، فاضحة، لا تستخدم التسطيح بل يذهب كاتبها إلى الأعماق، إلى استنهاض الشخصية اليمنية، تلك التي يردد صدى إنجازاتها التاريخ.
البئر تفضح استعانة ساستنا بالخارج للانتصار على أنفسهم. إنهم يصنعون أبشع مما صنعه أبرهة صاحب القليس، وما صنعه دعاة الفرس لإعانتهم على معارضيهم.

ننتظر كل جديد لروائي مخلص لمشروعه الأدبي، والمتجدد لفنياته، لنتزود من تجربته التي نجد أنفسنا فيها كقراء، خاصة في حواراته العاطفية، وأبعاد فكره المجتمعي، وإخلاصه لمنطقته

تناقش الرواية توجه قيادة استقلال 67 في عدن، حين أستبدل الثوار المستعمر الإنجليزي، بمتحكم سوفيتي، لتدور عدن ضمن مدار المنومة الاشتراكية ليس كند بل كتابع. اليوم وكأن تاريخ ساستنا أسطوانة مشروخة تعيد نفسها، فمنهم يستعين بطهران، ومن يستعين بأبوظبي، وجماعة بقطر وتركيا، وشرعية بالسعودية. وقد تحولوا جميعهم إلى مجرد عسكر يؤمروا لينفذوا صاغرين. مجرد مطايا دون كرامة أو خجل. لا يملكون من أمرهم شيئا غير الطاعة العمياء لمن يدفع.
"أمير النفط نحن يداك
نحن أحد أنيابك
ونحن القادة العطشى 
إلى فضلات أكوابك
ومسؤولون في صنعاء
وفراشون في بابك" 
(من قصيدة مطولة للبردوني).
رواية تفوق العودي في فضح الساسة الذين يديرون أمورهم بأسلوب قادة العصابات.
تبدأ أحداث الرواية من أواخر النصف الأول من القرن الماضي، حينها كانت عدن مزدهرة، بل في أوج تألقها. تمنيت لو أن الروائي جعل عنوانها "قرديش" أو بئر قرديش، بدلا من البئر، لظني بأن مفردة البئر مباشرة ومستهلكة. وقرديش كما وردت في الرواية قرية الجن. كما يخاف السكان من سكانها في "يافع". لكن ما أن تجاوزت الفصل الثاني حتى أدركت رمزية العنوان "البئر" ودلالته المتمثلة في تلك السقطات المتتالية التي تعرضت لها شخصيات العمل، وكأن المجتمع يعيش على شفاه بئر. بداية بظن زيد سقوط زوجته ناهد في البئر وموتها في أعماقه، إلا أنه يجدها في عدن، ليغادر إلى أرض المهجر كندا مصطحبا لها وطفلته منى، لكنه يلقى حتفه وزوجته بعد أشهر من وصولهما هناك في جبال الروكي، تاركا ولديه سيف وأمل بمعية شقيقه بالعيد. 
السقطة التالية ما انتهجته قيادات الجبهة القومية تجاه عناصر جبهة التحرير من قتل وملاحقات في سبيل خلافة الإنجليز على عدن، ثم السقطة الكبرى، ما مارسه الحزب الاشتراكي في حق الجنوب، بداية بسياسة "لا صوت يعلو فوق صوت الحزب"، فلاحق كل صوت معارض، وأمَّم أبسط الممتلكات ليفر أصحاب الرأس مال وذوي الفكر والتجربة، وتتحول عدن إلى سجن كبير، كل من فيها متهمون، وبذلك عمَّ الفقر وارتفع ضجيج الشعارات الخاوية. 
رواية أحمد زين "فاكهة للغربان" الصادرة مؤخرا، تشارك البئر في تناولها لتلك الفترة، حين توقف الزمن عند العام 1967. بمدينة كانت ضمن مدن العالم المعاصر، نمو اقتصادي، وتطور في جميع مناحي الحياة: اقتصاديا وثقافيا ومعرفة وحرية معتقد وفكر. يضرب بها المثل كمدينة إنسانية تُدار بمنظومة قوانين، يتساوى سكانها على اختلاف أعراقهم وأديانهم. وبذلك تحولت إلى قبلة المستثمرين، وعشاق الحياة. 
سنة بعد أخرى تريفت عدن وتقهقرت أوضاع مجتمعها، فلا حريات، ولا تعددية، ولا صحافة خارج نطاق الحزب، ولا استثمار، ولا قبول لأي صوت آخر غير صوت الحزب "أصبحنا نرى بدلا من الواجهات الزجاجية. ولافتات الإعلانات التجارية.. أعلاما ترفرف وشعرات ثورية حمراء.. ونرى الغنم والدجاج في شرفات الدور الرابع. هرب التجار من عدن. ونزل الجبل بقده وقديده ليحتل عدن...".
فر "بالعيد" إلى كندا حيث استثمارات شقيقه المتوفي زيد، مع من فروا، وقد وجه الحزب أصابع الاتهام لأصحاب رأس المال بأنهم عملاء للمستعمر. وأعتقل من تبقوا. لم يبق بالعيد في كندا منتقلا إلى تعز، محاولا استثمار أموال العائلة هناك. لكنه يجد الأمور هناك غير آمنة، فيحزم أمتعته إلى جدة وهناك يجد الحاضنة المشجعة للاستثمار، تتعدد مشاريعه، ويتوسع في استثماراته هناك، ليستعين بأحد قيادات الحزب في يافع لإخراج أفراد أسرته عبر الشمال. وينجح في تهريبهم إلا أن سيف يقع في قبضة حرس الحدود، يقاد ويسجن عدة سنوات في صبر على مشارف عدن.
جغرافية أحداث الرواية امتدت من وادي الرخمة في يافع حيث الجبال تحيطها، التي نجح الكاتب في رسمها، بوديانها وعادات سكانها. ثم عدن التي أخذت مساحة أحداث الرواية تتسع فيها، إلى تعز وصنعاء، وجدة. ثم العالم الجديد "كندى". 
يفاجئ القارئ أن زيد الذي بدا روايا للصفحات الأولى، كان قد توفى في مهجره بكندا، وما كان يحكيه مجرد مقالة نشرها في إحدى الصحف الكندية، كذيريات حول حياته في وطنه المجهول بالنسبة لقراء تلك الصحيفة. وبلعبة فنية ذكية نجد أن سيف ابن زيد يقود سرد الأحداث إلى نهاية الرواية، لينتهي دور زيد كراوٍ داخلي عبر تلك المقالة المطولة.
شخصيات كثيرة شاركت أحداث البئر، بين رئيسية وثانوية وهامشية. منها الشخصيات المركبة كزيد، والشخصيات النمطية كسيف. ويمكنا توزيع تلك الشخصيات إلى ثلاثة أجيال.. من: ساجدة وخلود وزيد وناهد ونعمة وبالعيد. ذلك هو الجيل الاول الذين بدأت حيواتها من النصف الأول للقرن الماضي. ثم يأتي الجيل الثاني: سيف وميمونة وأمل وجبران وعزام وفاطمة.. الخ تلك الأسماء التي لم يكن له أي تأثير على مجريات الأحداث، حين يشعر القارئ بأنها شخصيات مسلوبة الإرادة أو ضحايا لواقع مرير، بينما ظل ما صنعه زيد ويصنع بالعيد هو المهيمن من اغتراب واستثمار وتنقل واتخاذ ما يجب فعله، وكأن سيف امتداد لشخصية زيد. نفس الطباع واللغة، الميول، العاطفة، عدا الاختلاف في علمانية وتحرر زيد بينما سيف كان متدينا. بل نجد زيد وناهد من الجيل الثاني أكثر معاصرة من أبنائهم الجيل الثالث رغم نيلهم تعليم جيد، عدا منى الطبيبة المنتدبة للعمل في جدة التي كانت إحدى الأسر الكندية قد تبنتها بعد موت والديها زيد ونهاد. منى التي صادف وجودها كطبيبة في مستشفى تمّ نقل سيف إليه مصابا لتحدث المفاجأة ويتعرف المريض على طبيبته أنها شقيقته.

تلك الأجيال لا يشعر القارئ بتطور حياتهم، وكأن عدن ومجتمعها قد توقف الزمن عند العام 1967 فالعالم يتقدم ويتغير إلى الأفضل، وعدن تتقهقر. ولذلك صورت الرواية تسلط الجمود الذي مورس على مختلف أجيالها. لنتذكر هنا روايات رصدت تغير مجتمع مجاور لنا "عمان" في نفس العقود، مثال رواية "أسامينا" للعمانية هدى حمد، وأخرى لمواطنتها جوخة الحارثي "سيدات القمر". ثلاثة أجيال عمانية عالجت تحول المجتمع من مجتمع ريفي بسيط إلى مجتمع معاصر ومتطور. هنا صورتان متناقضتان لمجتمعين متجاورين، وكأنه وجه حسناء أصابه شلل نصفي.
تلك الروايات التي ناقشت  تطور المجتمع، كان يرزح تحت نير سياسة فرضت عليه التجهيل والتخلف، ليأتي قابوس بثورته محولا ذلك المجتمع إلى ما هو عليه اليوم.
عكس عدن التي كانت جوهر مدن الجزيرة العربية، بل وتنافس مدن عربية أخرى، تتراجع وتدمر حين فرض عليها أن تشيخ وتحتضر حتى اليوم.
الرواية لا تدعو إلى عودة المستعمر. فقط تناقش أحدث وسياسات مورست على عدن. بتجرد تقدم تجربة مريرة عاشها المجتمع.. أفقر.. وشرد .. لتشيخ المدينة التي سلبوها مقومات الحياة وتطورها، بسياسة التبعية والارتهان للمنظومة الاشتراكية التي كانت عدن مجرد مستهلك، لا تصنيع ولا إنتاج، بل أوصلوها إلى أن تكون متسولة على عتبات كوبا وألمانيا الشرقية وبقية المنظموة. 
رواية صارخة من خلال نقل ما دار، ولا يزال تأثيره قويا إلى اليوم بعد أن هجنوا المجتمع ليعتمد على السلطة، ولا يسعى للإنتاج أو التصنيع.
سيف امتداد لزيد وميمونة تشابه ناهد. وبقية الشخصيات تتشابه وتتقارب في تطابقها ببعضها البعض، إلا أن عدن برزت متجاوزه كينوتها كمكان إلى أن تكون شخصياتها بين الشخصيات. محتلة مكانا في مساحة السرد. هذا ما أظهرته مقدرة الكاتب بفنية لافتة. ولم يتجاوزها مكان آخر لا كلد.. أو جدة ولا تعز أو صنعاء أو مونتريال. عدن ظلت بشخصيتها طاغية وحاضرة حتى وإن كانت الأحداث بشخصياتها. تنتقل من يافع إلى جدة أو أي مكان آخر. ظل حضورها طاغيا. وكأن تلك الشخصيات صدى لها، وتلك الأمكنة مجرد امتداد. هنا نجح الكاتب في رسم وتشكيل تلك الصور الذهنية للمدينة الإنسانية، ليجد القارئ نفسه متعاطفا معها ضد تلك السياسات التي دمرتها. متجاوزا بها الكاتب كمكان إلى شخصية محورية مؤثرة. الكاتب نجح أيضا في تجسيدها بفنية عالية ككائن متفاعل. ونموذج معبرا عن تلك التحولات التي أدت إلى ما أصابها من عجز. وكأنها كائن أصيب بالكبر والهرم، ليهرم مجتمعها معها "وحين وصلت دار سعد رأيت الجمل يحرك معصرة السليط.. وثمة جمال تجر العربات منذ الخمسينات...". صُدم سيف بعد غيابه سنوات في جدة التي كان نموها وتطورها يتسارع يوما بعد يوم، وقد عاد إلى عدن بعد  إعلان الحزب عفوا عاما لمن غادروا البلد، ليجد كل شيء يتآكل وتتحول ألوان الجدران إلى اللا لون "لكنهم يقولون إنهم بنوا فندقا أنيقا في الجولد مور.. وهو هدية من دولة بالغاريا..." حتى ما ينشأ من مباني على قلتها.. كانت معونات وعطايا. 
مصادفة، جاءت غير مقنعة، مثل أن تعالج "منى" أخاها سيف دون أن يكون كل منهم يعرف الآخر. وقد أراد الكاتب أن يظهر الشتات الذي مورس على المجتمع.
بتغير اسم بالعيد راجح من صفحة 57 إلى ص 150 ليعود اسم بالعيد إلى النهاية. وأجزم بأن الكاتب كان يقصد راجح زوج قمر الذي كان مغتربا في بريطانيا ثم عاد يحرس قمر، أو أن الأمر اختلط علي بين الاسمين.
الأحداث ساقها الكاتب بمهارة، إلا أن خبر موت ميمونة حين وصل إلى سجن سيف  في صبر، ثم بعد إطلاقه ووصوله إليهم في جدة، يكتشف أن زوجته ميمونة قد تزوجت ولها ولدان من زوجها الجديد، بعد أن خبر انتحاره قد وصلهم. لم يأت ذلك مقنعا، إلا إذا أراد الكاتب أن يصور العزلة التي كان يعيشها مجتمع عدن، رغم وجود مغتربين وتواصل وهواتف. ثم غريزة الإنسان بالبحث، خاصة مع أسرته بعد خروجه واستقراره في يافع لسنوات طويلة قبل أن يفكر بالسفر إليهم. فهل أراد الكاتب تصوير العزلة التي فرضها الحزب على الجنوب.
مهارة تحسب للكاتب قدرته على تغير أصوات الرواة، وبمرونة يجعل الحكي سلسا ومنطقيا.
حكاية قمر وراجح مؤثرة. وقد تكون مستقاة من واقعة حقيقة، إلا أنها تبدو زائدة عن سياق تطور الأحداث. كذلك موت قاسم عداوي في الشلال، إضافة إلى تشظي حكائية آخرى ليست ضمن تطور الأحداث. وكأن الكاتب يوظف بعض خصائص كتابة السيرة في هذه الرواية بجلب تلك الحكايات الفرعية، في محاولة تجريب دمج فن السيرة بالرواية. وهذا كنوع من التجديد الذي يحسب له.  
زواج سيف من فاطمة وبعاطفة مفرطة، هي نفس العاطفة التي كانت لسيف مع ميمونة، وحتى بعد سفره إلى جدة ولقياها، حتى ممارسة الحب مع الزوجتين وكأنهن كائن واحد، هو نفس الوصف لعاطفة زيد تجاه ناهد، ما يبعث على الحيرة حول تعدد الزوجات وقدرة الكاتب تبريره إنسانيا.
تلك المكائد تكررت بداية بوصول خبر موت ميمونة إلى سجن سيف، ثم وصول خبر موت سيف إلى جدة. ومكيدة أخرى حين التقط مثنى صورا لقمر يوغر بها قلب زوجها راجح. في زمن لم يكن للكاميرات الحديثة وجود أي قبل 1948. لكني أعود وأقول إن عدن كانت قمة التحضر وما مثنى إلا مغترب وفي بريطانيا أحدث المنتجات.
الكاتب يريد إيصال فكرة ضيق الأفق لدى أشخاص ذلك المجتمع، ليظل كل بعقليته وحب الاستحواذ من خلال معاملة راجح لقمر، رغم أن راجح كان قد أغترب في بريطانيا إلا أنه ظل ذلك القروي الغيور.
نجاة عزام من الرجم، أم أنها رسائل الكاتب حول إيحاءات يجب علينا بحثها في نفوسنا.
محمد مسعد العودي بهذه الرواية التي تضعه في مصاف أصحاب المشاريع الروائية الكبيرة، تضاف إلى أعماله السابقة التي تتصل ببعضها كسفر عظيم. نشد على يديه بالمزيد والمزيد. 
ننتظر كل جديد لروائي مخلص لمشروعه الأدبي، والمتجدد لفنياته، لنتزود من تجربته التي نجد أنفسنا فيها كقراء، خاصة في حواراته العاطفية، وأبعاد فكره المجتمعي، وإخلاصه لمنطقته، وإن كان المبدع ذا أفق إنساني لا يحده حدود ولا عرق ولا دين ولا رقعة أرض.