فؤاد طمان .. وداعًا شاعر الإسكندرية القانوني

الشاعر الراحل له تجربة شعرية فريدة، ذات خصوصية فنية، تتسم بالأناقة في إختيار مواضيعها وانتقاء ألفاظها وصياغة أسلوبها.
الشاعر تميزَّ في تجربته الشعرية التي بدأها منذ الستينيات من القرن الماضي، مجايلاً لكوكبة من مبدعي الشعر في الإسكندرية
فؤاد طمان تتفرَّد قصائده بسمات فنية تنبثق عن سماته الشخصية، وتتفق معها

فؤاد طمان من شعراء الإسكندرية المتميزين، له تجربة شعرية فريدة، ذات خصوصية فنية، تتسم بالأناقة في إختيار مواضيعها وانتقاء ألفاظها وصياغة أسلوبها، وهْي سِمة شخصية مبدعها، الذي اشتهر في الوسط الثقافي والشِعْري بالشاعر القانوني الأنيق الخلوق.
ولد فؤاد علي طمان، في محافظة الجيزة في الثالث من ديسمبر عام 1943، وانتقل في طفولته إلى الإسكندرية مع أسرته، وقضى بها مراحل حياته في إقامة مستمرة مستقرة حتى وفاته – صباح الجمعة – العاشر من أبريل/نيسان 2020، وقد تخرج في كلية الحقوق – جامعة الإسكندرية في عام 1965، وتخرج - أيضاً – في الكلية الحربية في عام 1967، وتدرج في سلك الوظائف القانونية بالقضاء العسكري حتى رتبة العقيد، ثم استقال للعمل محامياً لدى محكمتي النقض والدستورية العليا منذ عام 1982 وحتى وفاته.
وقد بلغت شهرته في المجال القانوني والمحاماة مبلغاً عظيماً، خاصة في الدعاوى القانونية البحرية، وكان مكتبه للمحاماة – أول شارع السيد محمد كريم أمام مجمع المحاكم بالمنشية بالإسكندرية – مقصدا للقاصي والداني من أصحاب المطالب القانونية، ويذكر أنه اختير عضواً بوفد مصر في مؤتمر الأمم المتحدة الثالث لقانون البحار (1967 - 1982).
ويُعرف طمان باتساع دوائر علاقاته الشخصية بل والدولية، مما أتاح له مَدَّ جسور الصداقة مع عدد كبير من الشخصيات العامة في الداخل والخارج، وقد بدا ذلك جلياً خلال وجوده في أي موضع يشارك فيه، خاصة في المجلس الأعلى للثقافة بلجنة الشعر ومركز الحرية للإبداع بالإسكندرية.
ويُذكر له بجانب إبداعه القانونى والشعري، حِرْصُهُ على أن يبدو أنيقاً فى ملْبسه ونبيلاً في خُلْقه ومعاشرته، فصار مضرب المثل في حُسْن المظهر والجوهر.
وقد تميزَّ في تجربته الشعرية التي بدأها منذ الستينيات من القرن الماضي، مجايلاً لكوكبة من مبدعي الشعر في الإسكندرية منهم، الشاعرة الراحلة عزيزة كاتو، د.محمد رفيق خليل، محمد المصري، د. أحمد الشيخ، وصبرى أبوعلم، وقد شكلوا جميعاً حالة من الإبداع الشعري المغاير في سماء الشِعر السكندري.
وقد نال - على أثر ذلك – عضوية جهاتٍ ثقافيةِ وأدبية رفيعة عبْر محطات حياته منها:
-    لجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر (2006 - 2019).
-    لجنة الآداب والدراسات اللغوية بمكتبه الإسكندرية (2006 - 2010).
-    لجنة جوائز الدولة بمصر.
-    مجلس أمناء جائزة العميد محمد خلف الله أحمد للدراسات الأدبية.
-    مجلس أمناء جائزة الدكتور زكي شريف للبحث العلمي مؤسس وأمين جائزة الشعر القومي.
-    اتحاد كتاب مصر.
-    أتيليه الإسكندرية. 
-    هيئة الفنون والآداب والعلوم الإجتماعية بالأسكندرية.
وقد حصل على جوائز عِدَّة منها:
1- جائزة كفافيس الدولية للشعر لعام 2009.
2- جائزة الدولة للتفوق في الآداب بمصر 2019.
وقد ترجمت مختارات من شِعره للغات: الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية واليونانية، وكتب عنه عدد كبير من نقاد الأدب والشعر منهم: د. صلاح فضل، فاروق شوشة، أحمد عبدالمعطي حجازي، د.يوسف نوفل ود. محمد عبدالمطلب.

The departure of writers
حُسْن المظهر والجوهر

وقد صدر له عشر مجموعات شعرية عن جهات مختلفة:
-    البحر أسرع من نشيدي (2015)     - مدى اللورد والرصاص (2001)
-    وصايا أبولو (2013) - أوراق الرحلة المرجأة ط2 (2001)
-    أغاني أورفيوس (2012)    - بيروت تحت الحصار (2001)
-    بكائية على البحر (2003) - فؤدا طمان.. قصائده المختارة 3 أجزاء(2016 - 2017) - ما أبقت الريح (2007)    - سيرة العاشق (2012)
-    سيرة العابر (2011)    - نبيذ الآلهة (2008)
وتتفرَّد قصائده بسمات فنية تنبثق عن سماته الشخصية، وتتفق معها، من حيث القوة في عرض الرأي والإعتزاز بالمبدأ ووضوح الرؤية والثقة بالنفْس وجلاء العلاقات وإبراز الخصوصيات والجزئيات، وعلى سبيل المثال نقدَّم قصيدته "المصيف الغربي" التي تعكس مدى ارتباطه بالإسكندرية من خلال الرمز لها بـ "ليلى". ويستهلها بقوله: 

        "ليلى .. وموج البحر .. والرمل الخشنْ..
        وأمام عيني الطفولة والصبا .. صورٌ تلوحُ
        وحولنا أرجٌ .. وموسيقى ترفرفُ
            والأغانى الباعثاتُ الروح في القلب المسجّى
            آهِ من تلك الأغاني الضائعات .. الباقياتِ
            على شطوطِ القلبِ .. خالدةْ على مرِّ الزمنْ"
ونلمس في الصياغة الشعرية الدقة في التعبير والقوة في التأثير والإنتقال في ثقةِ من السطرِ الشعري إلى الذي يليه حتى نصل إلى قوله في القصيدة نفسها:
            "ياويلتى! للبحر سربٌ من طيور داكناتِ...
            لا تكفُ عن النعيب .. ولا ترقُ ولا تَحنُ..
            سربٌ يشق الصحْو .. يدنو ثم يبْعدُ
            ثم يدنو ثم يبعدُ . حاملاً نُذُرَ العواصفِ..
            عامراً ألق المشارق بالرمادِ وبالشجنْ.
            مازال فوق العش ينعبُ .. يستحثُ الطيرَ أسرابا فأسراباً
            تخف إليه مسرعةً .. بأجنحة بلون الموت داجيةِ..    
            تحاصرنا .. فلا أبقى على النهدين وسناناً
            ولا تجتاز ليلى خلفيَ الدرب الذي
            يمتد من عُش البنفسج للشطوط الخالداتِ
            تفرّ "ليلى" والطيور وراءها بعويلها الوحشيّ للأفق البعيد
            وتظلم الشطآن عاماً .. بعد عامِ.."
نستطيع أن نمسك فيما سبق بقدرته الفنية على الثبات الانفعالي أمام موجات عاتية صاخبةً هائجة تجتاحه وتقتحمه، ولكنه يواجهها بخطى الواثق، وقرار القادر على المواجهة، حتى يصل إلى ختام القصيدة بموقف محدّد دال جلىِّ بقوله: 
"لم يعدْ في الشط غير معاند
حذَرَ المغيب
وموجةِ تلهو على الصخْر القريب
وطائر يبكى على ذاك الفنن.."
ونقف متأملين مفرداته الدالة على الحالة الشعرية، ونجاحه في توظيفها ووضعها في مواضعها المؤثرة مثل "الرمل الخشن – الطفولة والصبا – حولنا أرج – موسيقى ترفرف – القلب المسجّى – طيور داكنات – ألق المشارق – فوق العشب ينعب – أجنحة بلون الموت – عش البنفسج – عويلها الوحشى – حذر المغيب – موجة تلهو وطائر يبكى.."
وللشاعر فؤاد طمان الكثير من القصائد التي تعكس همَّة القومى، ورأيه في أحداث أوطاننا العربية، وموقفه المؤيد لمواجهة العدو الصهيوني الإسرائيلي المحتل لبلدنا العربي "فلسطين"، ومنها قصيدته "نضال" المهداة لشهيدة فلسطين والأمة العربية "عندليب خليل قطاطقة" واسمها الحركي "نضال"،  ويستهلها بقوله: 
أذانُ العصْرِ!
قومي يا "نضال"
"تكسرتِ النصال على النصالْ"!
هَبينا قُبلةً عجْلى ..
 ومُرِّى مثل ومْى البرقِ مسرعةً..
لتخترقى الدخانَ .. وتثأرى من قاتليكِ،
وتعتلي عرش الكمالْ"

وله أيضاً  قصائد عدة مسوحاة من تراثنا العربي ومن التراث الإغريقي، ومنها قصيدته "أنشودة أُرْفيوس الأخيرة"، و"أرفيوس شاعر غنائى من شعراء ملحمة هوميروس الأغريقية. كان ينشد ويعزف فيسحر الكائنات، تسلل إلى العالم السفلى بعد موت حبيبته ليستعيدها، فسحر الآلهة بروعة إنشاده وحنت له وأذنت له بإصطحاب حبيبته إلى الحياة من جديد، لكنه بمخالفة نصيحة الآلهة عن غير قصْدِ فقدها للأبد، ولنتأمل قوله منها:
"أنا عائد لأردَّ النجوم لأبراجها
والجميلة للعرشِ .. مخترقاً غابة النار
أنا أورفيوس المحب الذي حاصرته الوحوش
ليترك قيثارهُ ويخوض القتال!"
ويكتب لنا إقراره الأخير أو وصيته التي تعترف بأن لا شيء ينقصه سوى ما سلبته منه الريح مسرعةً مقهقهة وينقصه أيضاً – اليقين. ونتأمل ختام قصيدته "لا شيء ينقصني":
لا شيء ينقصني هنا في رحلة العمر الحنون
إلا تواريخي التي ضاعت سدى
إلا الذي شيّدتُ من مدنِ الرمالِ وبعْثرتْهُ
أمام عيني الرياح السافيات على المدى!
إلا الحقيقة!! ياحقيقة أين أنتِ؟
العمر يمضي .. العمر شارفَ منتهاه!
الآن ينقضي فطهريني من تهاويل الظنون الذي سلبته منَّي الريح
مسرعةً مقهقةً .. وينقصني اليقينْ
وقد رحل فؤاد طمان الأنيق  الخلوق، ولا شيء ينقصه سوى اليقين، ولكننا على يقينِ بأنه باقِ فى مكتبتنا الشعرية لتميّز قصائده وصدقها وتأثيرها الممتد في الزمان الحالي والآتي.