فنان التصوير سعيد شيمي يتذكر في 'ذاكرة الأيام والسينما'

سعيد شيمي يقدم في كتابه الجديد شهادة على فترة زمنية مهمة من عمره مرت بها أحداث وتحولات كبرى في مصر، كان شاهدا عليها.
سعيد شيمي يروي تجربته في السينما والحياة
شريط ذكريات سعيد شيمي يبدو كفيلم طويل ممتد عبر تاريخ مصر
سعيد شيمي مليء بالوطنية والحماسة إلى حد المغالاة أحيانا

يعتبر سعيد شيمي (مواليد 1943) من أهم مديري التصوير في السينما العربية. وكان له الفضل في تطوير وابتكار الكثير من الوسائل التي جعلت تصوير الأفلام السينمائية يخرج عن الإطار الضيق لجدران الاستديو السينمائي، وجعله يفيض بروح وإيقاع وحيوية الشارع، كما أن له إسهاما ملموسا بارزا في التصوير تحت الماء. 
ولم يكتف سعيد شيمي بالتصوير بل قام ولايزال، بتعليم الأجيال الجديدة فن التصوير السينمائي من خلال دوره الكبير في التدريس بعدد من الجامعات، كما أصدر عددا كبيرا من الكتب في تاريخ وتقنيات التصوير.
استوقفني طويلا كتاب حديث لسعيد شيمي يحمل عنوان "ذاكرة الأيام والسينما" صدر عن جمعية كتاب ونقاد السينما في مصر ولكن في طبعة سيئة ظلمت كثيرا مادة الكتاب التي ظهرت في حجم ضئيل غير لائق وتوضيب يراعي تقليل التكلفة وليس إبراز المادة.
لم يمنع هذا من الاطلاع جيدا على الكتاب الممتع الذي يروي فيه سعيد شيمي تجربته في السينما والحياة منذ مولده ويعرج على أهم المحطات في حياته العملية، لكنه يركز على الماضي دون أن يصل إلى الحاضر فذكرياته الواردة في الكتاب تنتهي عند نهاية مهرجان الإسكندرية السينمائي عام 1979 الذي يقول إنه كان أول مهرجان ينال فيه أول جائزة على تصوير فيلم المخرج محمد خان الأول "ضربة شمس". فقد أراد أن يقدم للقارئ خاصة من جيل الشباب، خلاصة تجربته في الحياة لعلها تفيد كل من يتطلع لتقديم شيء إيجابي وفعال في مجال العمل السينمائي أو غيره.
سعيد شيمي يبدأ بالقول إنه ليس ناقدا أو مؤرخا، بل أراد فقط أن يقدم شهادة على فترة زمنية مهمة من عمره مرت بها أحداث وتحولات كبرى في مصر، كان شاهدا عليها.

سعيد شيمي
كتاب يضم نصائح مفيدة للمخرجين والمصورين الشباب

الملاحظة الأولى على شريط الذكريات ليس أنها تعتمد فقط على الذاكرة وأنها انتقائية، بل أساسا انها في صلبها وغالبية ما جاء فيها، تركز على الإيجابي فيما قابله صاحبها، سواء كأحداث أو شخصيات لعبت دورا مباشرا في حياته، مع استبعاد السلبي منها، وهو موقف يفسر شخصية سعيد نفسه الذي يميل للتفاؤل والخير والانفتاح والحب، ورؤية الإيجابي في ثنايا الصورة مهما بدت غامضة وملتبسة- بل وكثيرا- داكنة. ولكن سعيد كما قال، ليس مؤرخا، بل يكتب بانفعاله الشخصي واحساسه تجاه الدنيا والناس والحياة. 
إنه يتوقف مثلا أمام الأجواء التي سادت مدينة القاهرة وشهدها بنفسه وسبقت حركة ضباط الجيش في 23 يوليو 1951، أي حريق القاهرة، وجنود وضباط الشرطة الذين عادوا من الإسماعيلية وتظاهروا في ميدان التحرير وأمام القصر الملكي وإعلان حظر التجوال وكيف شاهد الملك يطل من شرفة قصر عابدين حيث كان يقطن أمام القصر مباشرة (لم تكن هناك وقتها كما يستنتج المرء تلك الإجراءات الأمنية المحمومة التي تصل لحد تهجير الناس من منازلهم أو الاستيلاء عليها لتأمين الحاكم!
المهم أن سعيد الذي يعتبر حركة الضباط في 23 يوليو ثورة، وأنها نقلت المجتمع المصري نقلة كبرى الى الأمام، ويكتب ذات مرة على مواقع التواصل الاجتماعي أنه بفضلها تمكن من دراسة السينما، رغم أنه من عائلة تنتمي للشريحة العليا من الطبقة الوسطى (كان والده طبيب أسنان).. ورغم امتداحه لما أدخلته من إصلاحات وأنه يهدي كتابه إلى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الا أنه يروي الكثير من التفاصيل الطريفة والمثيرة السلبية التي وقعت خلال السنوات الأولى لحكم الضباط وعلاقة سلطتهم بالسينما، فيحكي مثلا كيف اضطربت صناعة السينما عندما أرادت السلطة تأسيس شركة انتاج تستولي على السوق، واحجام الكثير من المنتجين أو توقفهم عن صنع الأفلام الى أن قاموا فيما بهد بتأسيس شركاتهم الخاصة لإنتاج الأفلام.

 ذكريات سعيد شيمي تعبر عن فترات مفصلية في تاريخ مصر وتاريخ الحركة السينمائية فيها بصراعاتها وتقلباتها وطرائفها أيضا 

ستعود السلطة لتأميم السينما عام 1963 ويرصد سعيد التخبط الذي صاحب هذا التوجه والتضارب والتناقض بين المؤسسات والشركات والإصرار على وضع الضباط على رأس العملية الإعلامية والثقافية، ورغم انتاج عدد كبير من الأفلام التي أطلق عليها "أفلام حرف ب" وهي أفلام هابطة تغازل الفكر السائد، إلا أنه يقر بأن شركات القطاع العام أنتجت أفضل ما ظهر من أفلام في تاريخ السينما المصرية. ولكنه لا يفسر لماذا كان هذا الزخم من الأفلام التي تعكس مختلف الاتجاهات والتيارات في تلك الفترة (الخمسينات والستينات) وليس مطالبا بالطبع بتقديم تفسير لأنه في مجال سرد شهادته كسينمائي لا كمؤرخ.
يتطرق سعيد في مذكراته إلى دراسته للتاريخ في كلية الآداب وعلاقة الصداقة التي ربطته بصديقه وليم دانيال ثم بالناقد سامي السلاموني الذي كان منتسبا في قسم الصحافة مع دانيال، وكيف صنع سعيد فيلمه الأول كهاو للسينما بكاميرا 8 مم استعارها من خاله، عرضه في جمعية الفيلم، ثم كيف كان وراء إعداد السيناريو وكل تفاصيل فيلم "العار لأميركا" بعد عدوان 1967، وكان يود إخراجه لكنه تركه لصديقه أحمد راشد ليبدأ به مشواره إلا أن المخرج سعد نديم دخل طرفا رئيسيا في صنع الفيلم ووضع اسمه عليه بينما ظهر اسم سعيد شيمي تحت لافتة (إعداد الصور)!
أصبح سامي السلاموني فيما بعد أحد أشهر وأهم نقاد السينما في مصر وأخرج أيضا عددا قليلا من الأفلام التسجيلية أشهرها فيلم "كاوبوي، صور معظمها سعيد شيمي، كما كان يقدم برنامجا سينمائيا في التليفزيون المصري، الى أن توفي عام 1991. أما وليم دانيال (وهو من أصول أرمنية) فقد استمر كهاوٍ عظيم للسينما ثم هاجر الى الولايات المتحدة حيث توفي هناك. وقد عرفت كلا من سامي ووليم واقتربت كثيرا منهما، ولكني ارتبطت بوجه خاص بصداقة قوية مع وليم الذي كان يعمل في الخطوط الجوية السودانية وكان ممن يجيدون اللغات الأجنبية، كما كان حريصا على اقتناء الكتب السينمائية اثناء سفره الى الخارج، وكانت تلك الكتب عملة نادرة في السبعينات قبل ظهور الانترنت وسهولة الاتصال بالعالم. وأتذكر شخصيا أنني استعرت منه سيناريو فيلم "التانغو الأخير في باريس" وصدمتني العبارة الأولى التي وردت فيه على لسان بطله (الذي قام بدوره مارلون براندو) فقد كنا لانزال نعيش "عصر البراءة"! 

سعيد شيمي
مسيرة طويلة حافلة بالإنجازات

يستعرض سعيد تأسيس الجمعيات السينمائية مثل جماعة السينما الجديدة وجمعية نقاد السينما، وجمعية السينمائيين التسجيليين، ويتوقف تفصيلا أمام تجربة نادي السينما بالقاهرة من خلال شهادات بعض من كانوا قريبين من التجربة. إلا من أهم ذكرياته التي يسردها في الكتاب ما يتعلق بفترة حرب الاستنزاف على جبهة قناة السويس ومحاولاته تصوير أفلام عن الصراع المسلح مع إسرائيل بكل ما كان يكتنف ذلك من خطورة في ذلك الوقت. وهو يروي بالتفصيل كيف اشترك في مغامرة سينمائية كبيرة مع المخرج التسجيلي فؤاد التهامي وصديقه وزميله المصور محمود عبد السميع، حينما ذهب الثلاثة الى جبهة القناة لتصوير فيلم بكاميرا 16 مم عن صمود الجنود في الخنادق، وكاد أن يتعرض للموت جراء القصف الإسرائيلي. 
شريط ذكريات سعيد شيمي يبدو كما لو كان في حد ذاته فيلما طويلا ممتدا يعبر على فترات مفصلية في تاريخ مصر وتاريخ الحركة السينمائية فيها بصراعاتها وتقلباتها وطرائفها أيضا. ومعروف أن سعيد ارتبط بصداقة خاصة منذ الطفولة مع المخرج محمد خان، وهو الذي صور أول أفلامه أي الفيلم القصير "البطيخة" (1971).  وهو يروي تفاصيل مثيرة عن هذه التجربة التي تعكس فكر محمد خان من البداية، الذي قام فيما بعد بتطويره في أفلامه الروائية التي أخرجها بعد عودته من لندن التي كان قد ذهب اليها وقضى هناك سنوات طويلة، ولكن الصلة بينه وبين سعيد لم تنقطع بل ظلت متصلة بالرسائل التي تمكن سعيد مؤخرا من نشرها في كتاب من ثلاثة أجزاء.
توقفت في شريط ذكريات سعيد أمام تجربة وحيدة هي تجربة مهرجان سينما الشباب في الإسكندرية الذي اقامته منظمة الشباب الاشتراكي (التابعة للاتحاد الاشتراكي التنظيم السياسي الوحيد الذي أسسه عبد الناصر) في صيف 1969 في محاولة لاحتواء حركة الشباب الغاضب من خريجي معهد السينما الباحثين عن فرص كانت عسيرة وقتها، لإخراج افلامهم الأولى. وهي تجربة لم تتكرر من بعد. ويقول سعيد شيمي ان الجهة الحقيقية التي أقامتها هي التنظيم الطليعي، بينما كان هذا التنظيم سريا وكان تنظيما موازيا للاتحاد الاشتراكي، وعرف بولائه المباشر للرئيس عبد الناصر. لكنه أصبح سيئ السمعة بسبب تحول أعضائه الى كتابة التقارير والوشاية بزملائهم أي بدلا من أن يكون تنظيما سياسيا طليعيا أصبح أقرب الى جهاز بوليسي. وكانت تلك الفترة على أي حال شديدة التناقض فبينما كان هناك ميل رسمي نحو الاشتراكية، كان ينظر على العناصر اليسارية بتوجس وتخوف. ويروي سعيد شيمي أنه بعد ان ذهب مع المخرج أحمد راشد الى برلين الشرقية في صيف 1973 وصورا فيلما عن المهرجان العالمي للشباب ثم عرض وفاز بجائزة في مهرجان لايبزغ، عادا الى مصر واستدعاهما وزير الثقافة يوسف السباعي، ولكن بدلا من تهنئتهما بالجائزة أخذ يحدثهما عن مخاطر الشيوعية!

سعيد شيمي
ذكريات تتوالى في الكتاب

ليس صحيحا أن أحدا لم يصور أبدا أحداث حرب أكتوبر 1973 كما يتردد. الصحيح ان أحدا لم يسمح له بتصوير العبور فقط، وأن كل ما يظهر من مشاهد للعبور سواء في أفلام أو أغانٍ، هي لقطات وصور معدة أي مصنوعة صنعا بغرض استخدامها في الدعاية. وهو ما يذكره بوضوح الفريق الشاذلي في مذكراته، أما سعيد شيمي فيفاجئنا بأنه ذهب الى جبهة القتال مع المخرج داود عبد السيد (ضمن بعثتين للتصوير) بل وعبر أيضا الى سيناء وقام بتصوير اشتباكات حية مباشرة، ويروي تفصيلا عما لمسه من بطولات مباشرة من جنود بسطاء. لكنه لم يذكر في أي أفلام استخدمت الصور التي صورها للمعارك.
سعيد شيمي مليء بالوطنية والحماسة إلى حد المغالاة أحيانا. وكثيرا ما يجعلني أشعر بأنه لو لم يكن من أهل السينما لكان من ضباط جيش عرابي مثلا. ورغم انه صور عشرات الأفلام الروائية إلا أنه يعترف في كتابه بأنه تعلم الوطنية من تجربته في السينما التسجيلية. ولكن شدة وطنيته ورفضه للغرب عموما، ولأميركا خصوصا، تجعله يجنح أحيانا لترديد بعض ما يندرج في إطار نظرية المؤامرة، كأن يقول في كتابه إن نزول أول إنسان على سطح القمر عام 1969 اتضح انه "تمثيلية"!
لا بأس ففي الكتاب الكثير من النصائح المفيدة للمخرجين والمصورين الشباب. وفيه أيضا الكثير عن شادي عبد السلام وفيلمه الكبير "المومياء"، وتعاون سعيد مع المنتج رمسيس نجيب في تصوير فيلم "الرصاصة لاتزال في جيبي" الذي أخرجه حسام الدين مصطفى، وكيف صوروا مشاهد كثيرة منه في جبهة القناة. ولكن الطريف أن هذا الفيلم تحديدا اعتبر "المانيفستو" الأول على مستوى السينما في إهالة التراب على عصر الرئيس جمال عبدالناصر!