فنزويلا إلى الفوضى والحرب الباردة مجددا

لعبة أمم جديدة في القارة للاتينية. هذه المرة في الشوارع وبلا صواريخ نووية.

ثمة مؤشرات قوية على انفتاح الوضع الفنزويلي على مسارات متعددة ستسهم تاليا في فتح ملف أميركا اللاتينية التي لطالما اعتبرتها الولايات المتحدة حديقة خلفية لها، ذلك بحكم الجغرافيا السياسية وتنوع إغراءات التدخل للتبديل والتغيير.وفي هذا السياق لم يكن الوضع الفنزويلي سابقة في هذا المجال، فقد سبقها كل من الباراغواي والبرازيل والأرجنتين واللائحة تطول قبلا وأشهرها كوبا. إلا أن كراكاس شكّلت تحدّيا قويا لواشنطن، وبخاصة إبان حكم هوغو تشافيز، الذي خلفه نيكولاس مادورو.

تتقاطع أسباب داخلية وإقليمية ودولية لتصعيد الوضع، داخليا بات من الواضح إن ثمة مشروعين غير قابلين للتعايش حتى القسري، وسط دعوات للمظاهرات التي باتت دامية بين مناصري مادورو، ورئيس الجمعية الوطنية خوان غايدو الذي أعلن نفسه رئيسا انتقاليا وتزعم المعارضة بدعم أميركي واضح والذي بدأ يتوسّع دوليا، في ظل مسعى أميركي لاستثماره داخليا في العديد من الملفات المتعلقة بالرئيس دونالد ترامب والانتخابات الرئاسية المقبلة في المدى اللاحق، علاوة على أهمية النفط الفنزويلي والتي تستعدّ للتنقيب في مياهها الإقليمية المحاذية لجزيرة غويانا والتي بموجبها ستصبح من الدول الوازنة نفطيا في السنوات المقبلة.

إنما الأخطر من ذلك كله، من الوجهة الأميركية، ما جرى تداوله سابقا عن إمكانية إقامة قواعد عسكرية روسية بعدما رصدت واشنطن وجود أربع طائرات روسية إستراتيجية في فنزويلا، وهو البلد الذي لا يبعد عن الشاطئ الأميركي مثلا أكثر من 1500 كلم، الأمر الذي يعتبر تحديا للأمن الحيوي الأميركي، وهو ما يعيد تجربة واشنطن المريرة في ستينيات القرن الماضي مع كل من كوبا والاتحاد السوفياتي آنذاك. وما يعزز فرضية التقاطع الدولي حاليا التصريحات الأميركية بإمكانية التدخل العسكري في فنزويلا بعدما أشيع عن إرسال 5000 جندي أميركي إلى كولومبيا، الأمر الذي واجهته كل من روسيا والصين بشدة، ما ينذر بتوتر دولي إضافي.

إن ما سيزيد الأمر تعقيدا، الانقسام العامودي في الداخل الفنزويلي في ظل تماسك القوى العسكرية حول الرئيس مادورو، وانتقال العنف ومشاهد الفوضى إلى الشارع، في ظل عقوبات اقتصادية أميركية واحتجاز أصول مالية فنزويلية في المصارف الأميركية، وتخفيض العملة الوطنية إلى النصف ما سيزيد من تعقيدات الوضع الاجتماعي الذي سيصبح أكثر قابلية للانفجار، وفي ظل عدم قدرة أي طرف من حسم الوضع لصالحة في السرعة والوقت المناسبين.

إن موقع فنزويلا الجيو استراتيجي في الفارة اللاتينية سيفتح شهية دول كثيرة للاستثمار في الواقع الفنزويلي الراهن، بعدما تهيأت عناصر وعوامل التدخلات، ما ينذر بتكوين ملفات تنافسية وصراعية أخرى في مختلف دول القارة اللاتينية. فموسكو مثلا التي تراقب الوضع عن كثب بمواجهة واشنطن لن تترك كراكاس وليمة سهلة المنال، لاسيما وأنها بحاجة لتعزيز مواقعها الحيوية على الشاطئ الأطلسي في الخاصرة الرخوة للولايات المتحدة، وهي تجربة خاضتها موسكو السوفياتية في العام 1961 بكل قواها، وكادت أن تشعل حربا نووية بفعل نشر صواريخ إستراتيجية في كوبا لم تسحبها آنذاك إلا بعد سحب واشنطن لصواريخ برشينغ المنصوبة لها في تركيا. والسؤال الذي سيجدد نفسه هل ستعاد أزمات صواريخ جديدة في ظل رعاية الأزمة الفنزويلية الحالية؟

إن تجارب إدارة الأزمات التي قادتها واشنطن في غير منطقة في العالم تشير إلى ميلها الدائم نحو إشاعة ما تسميه الفوضى الخلاقة بهدف التغيير وفقا لمنظورها الاستراتيجي، وهذا ما بدا يتهيأ واقعا في الداخل الفنزويلي، والتجارب السابقة لاسيما في حالات الربيع العربي مثلا ذهبت فيها واشنطن إلى الأخير، فلماذا لا تعيد التجربة في فنزويلا؟ فيما الطرف الآخر الذي يحاول جاهدا إثبات وضعه دوليا، لن يترك واشنطن طليقة اليدين في فنزويلا وغيرها من مواقع الدول اللاتينية بعد مالت العديد من الدول باتجاه اليمين وتخليها عن اليسار. ربما صدرت كلمات السر لفتح الوضع اللاتيني واسعا بعد خضم متغيرات لم تكن بريئة ولا هي ناجمة عن ديناميات التغير الاجتماعي والسياسي الطبيعيين.