فنُّ تصوير الشخصية في 'أفلامي مع عاطف الطيب'

مدير التصوير سعيد شيمي يركز في كتابه على الأفلام التي اشترك في تصويرها مع صديقه ورفيق دربه المُخرج عاطف الطيِّب المعبر عن مصر البسيطة والحقيقية والمنشغل بالفن الهادف والمعتمد على مذهب الواقعية في الفن السينمائي.

قِفْ دونَ رأيِك في الحياةِ مُجاهِدًا .. إنَّ الحياةَ عقيدةٌ وجهادُ
ولعلَّ هذا البيتَ للشاعر الكبير أحمد شوقي يُشبه في معناه هذا الكتابَ، مُؤلِّفًا ومُؤلَّفًا عنه، بل في مضمونه كُليًّا. وما كتابُنا إلا دَفقةُ نَفسِ صديقٍ تُعانقُ نَفسَ صديقٍ آخر قد مضى، كُتب بحُبٍّ ومودَّةٍ وإخلاصٍ. سطره مدير التصوير سعيد شيمي في حبِّ المُخرج عاطف الطيِّب، بعد رحيله بعدَّة أعوام. ليُتيح لنا فرصة قراءة كتاب سلس ورائق عن شخصيَّة هذا المُخرج الذي بلغت أعمالُهُ من الشُّهرة والمكانة مَبلغًا عظيمًا في السينما العربيَّة. 
لكنَّه ليس كتاب هيام واشتياق إلى الصديق، بل هو كتاب جدِّيٌّ به الكثير من الفوائد. وهنا سأحرص على تقديم تلك الفوائد، مع مَسحَة الحُبّ التي كُتب بها.
إنَّ أبرز مداخل هذا الكتاب -وكذا أدوات رصده- هي كيفيَّة تصوير المُؤِّلف لشخصيَّة المُخرج عاطف الطيِّب.
 وهنا أحدِّد محاور تصويره لما أراد، وما الذي نتَجَ من مُحاولة مُدير التصوير في تصويره الكتابيّ، بعدما صوَّرَ طويلًا بالفُوتُونات الضوئيَّة على الشريط الفِلميّ؛ كيف سيُصوِّر بالكلمات اللُّغويَّة على أوراق الكُتُب؟
•عن الكتاب والمُؤلِّف والمُؤلَّف عنه
نسخة "أفلامي مع عاطف الطيب" التي قرأتها هي طبعته الثالثة عن "دار الهالة" في القاهرة عام 2021.
 وفي مائة وخمس وسبعين صفحةً نطالع كتابًا يتكوَّن من إهداء، ومقدمتَيْنِ، وعشرة من الفصول، ثمَّ خاتمة، تبعها فيلموجرافيا.
يُمكنني تقسيم محتويات الكتاب إلى قسمَيْنِ: القسم الأوَّل ما كتبه الأستاذ سعيد عن موضوع الكتاب، والآخر هو القسم التوثيقيّ والتسجيليّ، والذي يشمل إجابات عاطف الطيِّب عن أسئلة وُجِّهت له عام 1990، من الباحث شريف صبري لتضمينها بحثَه للدكتوراه، ثمَّ الفيلموجرافيا (ثبتٌ بالأفلام وتفاصيلها، كثبتِ المصادرِ الاعتياديّ في نهاياتِ الكُتب لكنْ بكامل التفاصيل) الكاملة لأعمال المُخرج، مع اجتهاد توثيقيّ لأبرز العاملين معه في كافَّة مجالات صناعة الفيلم.
موضوع الكتاب الرئيسي هو الأفلام التي اشترك فيها الصديقانِ. والغرض من الكتاب هو تقديم الوجه الإنسانيّ لشخصيَّة عاطف الطيِّب، ولنقُل بوجه أصحّ تقديم كامل الصورة عن عاطف الطيِّب إنسانًا ومُخرجًا. ولعلَّنا هنا أمام تصنيف أقرب لكُتُب الشهادات، حيث كاتبنا هو شاهد ومُعاين للأحداث التي كتب عنها، واستعان بها في التصوير. بل إنَّه اقتصر في تصويره للشخصيَّة على الأفلام التي صناعاها سويًّا، في حين ابتعد عن أفلام عاطف الطيِّب الأخرى. فنحن أمام تاريخ شخصيّ، تاريخ يحمل شهادة عين.

تقديم كامل الصورة عن عاطف الطيب الانسان والمخرج
تقديم كامل الصورة عن عاطف الطيب الانسان والمخرج

والمنهج الذي اختاره الكاتب في تصويره هو المنهج التاريخيّ، حيث بدأ بأوَّل تعارُفه مع عاطف -وقبلها بدأ بالإشارة إلى التاريخ الأوليّ للشخصيَّة.
 ثُمَّ تتبَّع المراحل التي مرَّت على عاطف من خلال ترتيب الأحداث. 
علمًا أنَّه تاريخ مُسترسِل تسعفه الذاكرة، فقد يذكر الكاتب موقفًا في فصل يتعلَّق بالفِيلم الذي سبق الحديث عنه. 
وقد اعتمد الكاتب على لغة سهلة صافية مُركِّزة على وصف ما يريده، إلا من المُقدمة والخاتمة اللذيْنِ أبدى فيهما تعبيراتٍ فنيَّة كانت لائقةً بالوصف الكُلِّيّ لعلاقتهما معًا، أو بعاطف إجمالًا.
ولمَن لا يعرف، فإنَّ سعيد شيمي أحد أكبر وأمهر مَن أدار التصوير في السينما الناطقة بالعربيَّة.
 وهو صاحب نقلاتٍ مؤثِّرة جدًّا في هذه السينما. أذكر منها على سبيل المثال إدخاله التصوير تحت الماء في السينما العربيَّة، بشجاعة وتفرُّد، وبجُهد فرديّ محض. لكنْ لا يُغطِّي أيُّ دور على دورِهِ في اعتياد السينما العربيَّة التصويرَ في الشارع، أيْ الموقع الحيّ للحدث، لا مواقع التصوير الصناعيَّة المُؤهَّلة له (الاستوديو). وهي نقلة عملاقة بها الكثير من عنصر الجرأة والمُخاطرة. ولهذا أُطلِق عليه "مُصوِّر الشوارع".
 وللكاتب تاريخ فِلميّ ضخم يقترب من مائتَيْ فِلم متنوِّع الطول والجِنس. كما أنَّ له ما يزيد على ثلاثين كتابًا، فهو ليس مديرًا للتصوير وحسب، بل مُنظِّرًا له أيضًا.
أمَّا عاطف الطيِّب فهو مُخرج معروف، وأعماله ذات شُهرة وثقل. ولعلَّ أيَّ مُهتم بالسينما أو مُشاهد عابر قد سمع باسمه أو رأى أعماله. وبالعموم فقد أخرج ثلاثة وعشرين فِيلمًا، أبرزها وأعمقها: البريء، كتيبة الإعدام، قلب الليل، وغيرها. تُوفِّي عام 1995.
• عن جيل عاطف الطيِّب
إنَّ أيَّ تصوير لشخصيَّة لا يخلو من إشارات تفيد القارئ عن عصر الحدث أو الشخص. ولمْ يُغفل كاتبُنا هذا الأمر، بل تحدَّث بصيغة الجمع، لأنَّ كليهما من الجيل نفسه.
 رسم لنا الكاتب جيلًا مُتأثرًا بما حوله ساعتها، جيلًا وُلد في أربعينيَّات القرن الماضي، وتفتَّحتْ أنفاسُ وعيِهِ الأولى على التجربة الناصريَّة -وهنا أدرج ما وصفه الكاتب، بغضِّ النظر عن رؤية صاحب السُّطور- وامتلأ هذا الجيل بما بثَّته وسائل الإعلام الحصريَّة للدولة، عن الزعيم، وعن الآمال الكُبرى، وعن الانتصارات الساحقة التي سنحققها، وعن غيرها مِمَّا صاحَبَ عصرًا مملوءًا بالحراك.
لكنَّ ما أثَّر فعليًّا في هذا الجيل لمْ يكُن تصريحات ناريَّةً، ولا تصرُّفات واسعة أحدثها النظام القائم على الأرض، إنَّما كانت قِيَم العصر والتجربة الناصريَّة.
 إنَّه جيل امتلأ بقِيَم العدالة والإصلاح والأمل في القدرة على تغيير الواقع، وعَشِقَ المُساواة وحقَّ الجميع في العيش الكريم، وصارتْ أحلام الجنَّة الأرضيَّة نُصبَ عينَيْه.
ولعلَّ هذه المنظومة القِيَميَّة هي التي شكَّلت وعي هذا الجيل، وهي التي شكَّلتْ أزمَتَه فيما بعد. فلقد كان التحوُّل الدراميّ القاسي، بدءًا بالانهزام العميق أمام العدوّ الصهيونيّ في لحظة كانت النفوس مُغترَّةً بأقصى تصديرات القوَّة والعنفوان الذي وصلنا إليه، انتهاءً بالقضاء المُبرَم على هذه الآمال والقِيَم في تصرُّفات الانفتاح الاقتصاديّ التي عاشتها مصرُ بعد حرب أكتوبر.
 لقد كانت هذه السياسة الانفتاحيَّة ضربةً في صميم المجتمع العربيّ -في نظري-، لأنَّها المسئول الأوَّل عن "تسليع الإنسان العربيّ"، وإشعال قِيَم الاستهلاك في نفسه، بل التهالُك عليها، وإنهاء عصر القيمة الفكريَّة والأخلاقيَّة، وعصر "المُثُل" من نظره.
وكم كان وصف الكاتب رائقًا لتلك الثُّلَّة من المُجتهدين المُخلصين الشباب، الذين صاحبوه في بدء عمله. 
لقد عدَّ منهم: المُخرج محمد خان، والمُخرج عاطف الطيِّب، والمُؤلِّف بشير الدِّيْك، والمُخرج علي عبدالخالق، والمونتيرة نادية شكري، والكاتِبَ نفسَه. ووصف مقابلات الصفاء أمام مبنى المونتاج في "مدينة السينما"، وأنَّهم سَمَّوا أنفسَهم "الصُّحبة". 
واشتراكهم في صناعة أوَّل فِيلم "الحرِّيف" (بطولة عادل إمام)، وإخفاقهم التِّجاريّ فيه.
 ولقد صحِبَ هذا الوصفَ حبٌّ وسعادةٌ تكاد تفارق السطور لتتراقص أمام ناظر القارئ. لكَمْ كانوا مُخصلين!
• شخصيَّة عاطف الطيِّب كما رسمها الكتاب
ارتكز الكاتب في تصويره لشخص عاطف على التفاصيل الهامَّة، فلمْ يذهب إلى استعراض كامل لتاريخه، بل اكتفى بالارتكاز حول "الأهمّ" والأشدّ تعبيرًا عن النتيجة شخصيَّة الطيِّب.
 كان عاطف طفلًا صعيديًّا من مواليد 1947، جاء مع أسرته إلى الحيّ الشعبيّ "بُولاق الدَّكْرُور"، الذي يُجاور الحيَّ الراقي "المُهندسِين". 
وقد عاوَنَ أباه في محلّ الألبان الذي افتتحه، وكان يوزِّع الألبان على الوحدات السكنيَّة مُساعدةً لأبيه. ولنلحظْ أنَّ تجارته قد كسدتْ من تنافس التجارات الأكبر، ومنه نعرف شيئَيْنِ: نقمة عاطف على التطاحُن بين الناس بالأموال، وشفقته على الطبقات الدُّنيا.
ومن هنا نرى هذا الشخص الذي صار مُخرجًا معروفًا يكتفي بسيَّارة عاديَّة، ويقول لسعيد: "إنَّني أستحي من الناس عندما أجد نفسي راكبًا سيَّارةً وحدي، والآخرون مُكدَّسون في المواصلات العامَّة". 
ومن هنا نعرف أيضًا سرَّ عدم تغييره لسيارته حتى موته. ومن هذا المُنطلق ندرك تصرُّف عاطف مع بقيَّة العُمَّال والفنيِّين، حين يأتي بكبار السنِّ منهم لمُساعدتهم ماليًّا تحت قناع العمل وهو في غير حاجة إليهم، أو في إصراره على استيفاء أجور العُمَّال مهما كانت الظروف.
صوَّرَ الكاتب إصرار عاطف، وقوَّة إيمانه بما اقتنع به، وحُرِّيَّة رأيه في اختياراته، وإخلاصه في العمل، ومُثابرته غير الاعتياديَّة. ربَطَ هذه القِيَم بتربيته وبكونه ابنًا لصعيد مصر، وبشقائه في صغره حتى استطاع دخول "معهد السينما". 
ولعلَّنا نرى في ظلالها تلك الأفلام التي لمْ يكُن ليصنعَهَا إلا حاملُ تلك القِيَم. ولعلَّنا نرى في هذا الرجل الذي يُخفي مرضه القلبيَّ عن الوسط الفنيّ، ويُكمل عمله -بل أعمالًا بعدها بإرادة مَضاء لا تنكسر- ظِلَّ ذلك الصبيّ الذي يترك لَهوَ الصِّبا ليُساعد أباه بتوزيع أكياس الألبان على البيوت.
صوَّرَ الكاتب المحبَّة العميقة، والبِرَّ الصادق لعاطف تُجاه والدَيْهِ وعائلته. ونرى في ظلال ذلك الخُلُق قيامه بتصوير أحد الأفلام لا لشيء، إلا ليقدر على مصاريف حجّ أبوَيْه إلى بيت الله الحرام، وتحقيق أمنية حياتهما. ويا لها من أمنية يحلم بها عشرات الملايين على مُختلف بقاع أرض الله!
ومن خُلُق عاطف الذي وصفه الكاتب، ومن فنِّه الذي أظهره لنا، نرى ظلال دبيب الأرض التي كان يَطَأُها عاطف مع آلاف مثله في ذلك الحيّ الشعبيّ. ونعرف لِمَ كان عاطف دومًا مع الناس وبينهم، ولِمَ اختار هذه الأفلام الصادقة في التعبير عنهم، ولِمَ حارَبَ كُلَّ مُعوِّق يعوق حياتهم، ولِمَ وقف ضدَّ القهر والظُّلم الذي عانى منه صغيرًا، ولِمَ عرَّى تأثير رأس المال الذي قضى على تجارة أبيه البسيطة قديمًا، كما جعل آلافًا يَقطنون أحياء صغيرة مُكدَّسِينَ عاش بينهم، وعلى القُرب منهم مئات يقطنون البيوت والشقق الفاخرة.
 لقد كان عاطف تعبيرًا عن مصر البسيطة، مصر الحقيقيَّة.
أمَّا عن أفكار عاطف وقضاياه، فصوَّر الكاتب حُبَّه الناهِمَ للقراءة ومُطالعة الكُتُب. 
ومن هذا التصوير نرى صفة "مركزيَّة القضايا"، فكثيرًا من أفلامه تتمحور حول مُحاربة سطوة رأس المال، ومُقاومة الظلم في صورة الاستبداد السياسيّ العامّ، أو الاستبداد الإداريّ الجُزئيّ، أو ملامح من الظلم الاجتماعيّ المُتفرِّق. ومن هنا تتبلور مسألة رؤية الناس بين عصرَيْ الناصريَّة والانفتاح في أفلام عاطف. 
ونرى كذلك -مِمَّا لمْ يذكر الكاتب- اهتمامَه بالقضايا العربيَّة في أفلامه: كُليًّا كفِيلم "ناجي العليّ"، أو جُزئيًّا بإشارات ليست عابرةً -رغم كونها عابرةً، فهذا هو التعبير الفنيّ، مثل إشارته لجهاد فلسطين في "كتيبة الإعدام".
• كيف صوَّر علاقتهما؟
امتاز الكاتب بالأمانة في شهادته وفي تأريخه، ففيما يخصُّ علاقته بعاطف الطيِّب بدأ مقدمته الأصيلة قائلًا: "لم يكُن صديقًا بالمفهوم التقليديّ للصداقة، فقد كُنَّا قريبَيْنِ جدًّا خلال 15 عامًا، هي كلُّ تاريخه الفنيّ تقريبًا". 
وما وصفه بعدها يدلُّ على مدى ما رسَخَ من قيمة الاحترام تجاه عاطف، وهو الركيزة الأهمّ في بناء أيَّة علاقة. رسم الكاتب معالم صداقة كان مركزها العمل، لكنْ لمْ تقتصر عليه. صداقة عميقة مِمَّا تنبني شيئًا فشيئًا في تَؤُدَةٍ وتأنٍّ، بل في الظلّ المُتواري عن صاحبها نفسِه. حتى إذا استوت على عُودِها كانت أقوى وأمتن من تلك الصداقات التي تُظهر الكثير وتُبطن الخواء.
وإذا بسعيد يُفاجئ بحماسة عاطف لأوَّل فِيلم "الغِيرة القاتلة"، فينفذُّه بالرغم من عدم اقتناعه الكامل به. 
وإذا بعاطف بعدها يتخذه الخيار الأوَّل والشريك الأكبر في صناعة أيّ فِيلم. ثُمَّ تدور الأيام، فإذا بالمُدير يعتذر عن فِيلم ثُمَّ آخر من المُخرج.
 وإذا بالمُشكلات تظهر مع بعض المُمثلات -ذكرها بالاسم في الكتاب-، وإذا بالصداقة العميقة تطغى على المشهد ويعبُرُ الموقف بسلام. ثمَّ تدور الأيام، فإذا بجَفوةٍ تمُرُّ في الطريق مع "كتيبة الإعدام"، فيتسرَّب إلى المشهد هدوء وبعضٌ من الأوقات العصيبة.
ثمَّ تدور الأيام، فيموت عاطف، ولا تدمع عينا سعيد عليه في يومها. لكنَّه يُجهش بالبُكاء العميق المرير بعدها، حين يرى عاطف يذكره في التلفاز في حوار مُسجَّل.
 تسأله المذيعة: "إذا أهديتُك آلة تصوير فماذا أنت بها صانع؟"، فيردُّ: "سأهديها إلى صديقي سعيد شيمي، فهو مُغرم بالتصوير جدًّا". ثُمَّ تمضي السنون فيُلحُّ على سعيد أمرُ صاحبه، فيبدأ يلقُمُ الصفحات ذِكرَهُ الطيِّبَ؛ ليجلِّي ما خفي من أمره للناس، ويؤدي حقَّ صديقه خير أداء. تلك هي الصداقة الهادئة، التي هي خير من تلك الصداقة المُلتهبة، التي من فرط التهابها سرعان ما تخبو.
• كيف صوَّرَ أسلوبَ "عاطف الطيِّب" الإخراجيّ؟
مدير التصوير أحد مرتكزات العمل الفِيلميّ، بل يكاد يكون -وأقول يكاد- الأهمَّ أثناء عمليَّة التصوير نفسها.
 وقد اهتمَّ الكاتب ببثَّ الكثير من الفنيَّات التي اعتمدها مع عاطف الطيِّب، رغم أنَّ النظرة غير المُتأنِّية قد تغفل عنها. سأصوغ أبرزها بوصف يُناسب الجميع -دون التعرُّض لفنيَّات صرفة، ليكتمل لدينا رسم الشخصيَّة في التجربة.
أوَّل ما يُطالعنا هو "قِيَم عاطف الفنيَّة"، حيث امتاز دومًا بالبحث عن المعنى وتقديم الفنّ الهادف، ابتعادًا عن مدرسة "الفنّ للفنّ". بل كان يُفتِّش عن الأعمال الجيِّدة لا ينتظر عرضها عليه من المُؤلِّفين -فِيلم "ضدّ الحكومة" مثلًا-.
وواضح أنَّ الرجل كان مؤثِّرًا في شخصيَّات الآخرين، لأنَّ الكاتب أشار مرَّاتٍ إلى مدى التغيُّر الذي يستطيع إحداثه في المُمثل، أقصد بتعبيري مِقدارَ ما يستطيع إنتاجَه من تلك المادَّة الخامّ (المُمثِّل قبل تصوُّر المُخرج) تحوُّلًا إلى المُنتَج النهائيّ (المُمثِّل بعد تصوُّر المُخرج).
 لدرجةٍ وصف فيها قائلًا: "المُمثِّل عند عاطف الطيِّب هو نصف الرُّؤية. ولهذا تجد -في جميع أفلامه- أنَّ المُمثِّلينَ في أماكنهم الحقيقية". ولا يتأتَّى ذلك العمل إلا من شخصيَّة تستطيع النَّفاذ إلى غيرها.
يعتمد عاطف مذهب الواقعيَّة في الفنّ السينمائيّ، وعُرِفَ مذهبُهُ -مع جيله- بـ"الواقعيَّة الجديدة". 
ورغم أنَّ مذهب "الواقعيَّة" يحاول التطابُق مع الواقع والتماسَّ معه، إلا أنَّ سعيد ذكر مرَّاتٍ أنَّه ذهب بالاتفاق مع عاطف إلى "التعبيريَّة" في تصوير بعض اللقطات والمَشاهد. 
و"التعبيريَّة" في كلام سعيد يقصد بها إدخال تعديلات غير واقعيَّة على الصورة، أو تدخُّل في أحد عناصر التصوير بشكلٍ مُعيِّن، لإبراز معنى بعينه، أو لتعميقه.
ومن واقعيَّة عاطف بحثه عن تصوير المشاهد في بيئتها الطبيعيَّة، مكاتب هندسيَّة حقيقيَّة، أو محالّ تجاريَّة حقيقيَّة، أو في الشارع وبين الآلاف فعلًا. وما هذا في نظري إلا ردٌّ للمَشهد إلى بيئته، لإنتاج أعظم النتائج المُتوقَّعة، بدلًا من استيلاد النتائج من المواقع المُحاكية (الاستوديو).
ولأنَّ كليهما يعشق هذا التصوير في المكان الحقيقيّ، فقد اختارا أقصى استفادة من هذه الحقيقيَّة في التصوير، وهي تفضيل الكاميرا المحمولة على الكتف أو اليدَيْن، لا تلك المُثبَّتة على حوامل تلامس الأرض.
 وما اختيار هذه الهيئة لآلة التصوير إلا لتفعيل "الحركة الحُرَّة للكاميرا"، وفي هذا كلُّ الاقتراب من الناس، ومن الحدث، ومن المعنى. فما بالنا أمام مُغامرَيْنِ يُشبهانِ القابلة التي تأهَّبتْ لإيلاد مجموع توائم من بطن واحدة، لا مولود واحد في حالة أخرى.
وبعدُ، فهذا بعض ما وصف به صديقٌ صديقَه، بعضَ ألوانِهِ، وبعضَ ضوئِهِ، وبعضَ عدساتِهِ التي صوَّرَ بها مدير التصوير سعيد شيمي المُخرجَ المُخلصَ عاطف الطيِّب.