فن التصالح مع الحياة والموت في الفلسفة الرواقية

الفلسفة الرواقية تقدم وصفة علاجية للنفس وما يختلط بها من أوهام وأحكام وتعتبر أن الصفاء النفسي يأتي من التسليم بهذا العالم، وتركز على اللحظة الراهنة بوصفها حقيقة يمتلكها الإنسان، عكس الماضي والمستقبل.

لا يمكننا فصل الفلسفة عن جانبها العملي المتعلق بالسعادة والأخلاق، وتحديدا ً عندما يمرّ الفكر الإنساني بلحظات عصيبة ومصيرية تجعله يقف على المحك وتهدد ثوابته المركزية، وخصوصا ً في الأزمات والحروب التي عصفت في تاريخ البشرية، وهذا ما كان عليه حال الإنسان اليوناني في الفترة الهيلينستية من الحضارة الإغريقية من ضياع وتشتت وفقدان للمعنى.
 لذا أولت الرواقية اهتماما ً شديداً بالجانب العملي والأخلاقي في الفلسفة وركزت أكثر على فردانية الإنسان ومشاعره وانطباعاته الأولية، وأفكاره عن الأشياء والواقع في عالم تتجاذبه الفوضى والإنهيارات، وهذا لا يعني أن الرواقية لم يكن لها نظرية في المعرفة أو المنطق، فالمدرسة الرواقية الأولى التي أسسها زينون الإغريقي ( 334ق.م-262ق.م)
كانت ترى في الصور الحسية الصادرة مباشرة عن المحسوسات هي أصل المعرفة عند الإنسان، والإحساس عند الرواقيين هو انطباع أثر المحسوس في النفس.
 ويقول الرواقيون بوجود مصدر آخر سموه التذكر، وهو عبارة عن مجموع التصورات الحسية التي ينتج عنها تصور كلي، وأسس الرواقيون منطقا ً خارجا ً عن المنطق الأرسطي، وقسموا المنطق إلى قسمين هو الديالكتيك والخطابة.
أما المذهب الطبيعي عند الرواقيين فهو مذهب مادي محض، إذ يرون أن كل مافي الطبيعة والكون هي عبارة عن أجسام مادية، والوجود الحقيقي هو وجود جسماني مادي، ابتداء من الله إلى أكثر الصفات الموغلة بالتجريد.
 وأشاروا إلى فكرة التداخل المادي في الوجود، فكل شيء يحتوي على الأشياء الأخرى، فالتداخل مطلق بين الأشياء وفي كل الأشياء ومن ضمنها عقل الله الذي يتخلل كل شيء في الوجود (وحدة الوجود أو وحدة في الوجود).
يقول كريسفوس : إن قطرة من النبيذ كافية ليس فقط لتلويث البحر بأكمله ،وإنما لتلويث العالم بأسره.
 ونادى الرواقيون أيضا ً بالمواطنة العالمية، وبالمساواة بين البشر، فالإنسان ابن هذا العالم، وابن الطبيعة ومحكوم بقوانيها .
يقول ماركوس اورليوس(121-18م) في تأملاته: "العالم وطنك، والبشر أخوتك، وخير البلاد ماحملك" 
وبناء على هذه النزعة المادية والإنسانية عند الرواقيين فالسعادة يجب أن تتحقق في هذا العالم المادي وليس في عالم آخر، بحيث تتحول وظيفة الفلسفة من حقل للتأملات المجردة والأفكار المتعالية، إلى ميدان عملي للإنسان في مواجهة المصاعب وأزمات الحياة.
المنهج العملي عند الرواقيين 
رغم اهتمام الرواقيين الأوائل زينون وكليانتس وكريسفوس بالأجزاء الرئيسة للفلسفة وهي المنطق والطبيعيات والأخلاق، إلا أن الفلسفة الحقيقة بالنسبة لهم هي الفلسفة العملية  التي تنص على أن العمل المطابق للعقل هو الذي يجري بمقتضى قوانين الطبيعة
أما المدرسة الرواقية الرومانية والتي يمثلها ابيكتيكوس ثم سنيكا والامبراطور الروماني ماركوس اورليوس بدأت تضمحل فيها نظريات المعرفة والمنطق والطبيعيات.
 بل يمكننا القول أنها اختفت تماما في تلك المرحلة فأصبحت الرواقية عملية صرفة مرتبطة بالأعمال التي يجب أن يؤديها الإنسان حتى يصل إلى الخلاص أو الحياة السعيدة من خلال التحكم الذاتي في العقل وضبط الانفعالات والعواطف السلبية.
تقدم لنا الفلسفة الرواقية أيضا ً وصفة علاجية للنفس والمشاعر، وما يختلط بها من أوهام وأحكام في نظرتنا للواقع والأشياء من حولنا، فالرواقية تقول بأن الصفاء النفسي والخلو من الكدر يأتي من التسليم بهذا العالم وعدم الحكم على الافكار والمشاعر.
 فالألم  والمعاناة ناتجان من حكمنا على الأحداث والمصاعب التي تمر بنا وليست هذه الأمور في ذاتها خيرا أو شرا ً، وإنما الوعي المغلوط والمحاكمات العقلية هي من تترك الانطباع السيء في النفس وما يصطبغ بها من أفكار.
 وكل ما يمر على الإنسان هو خير للعالم والطبيعة، لذلك تدعو الرواقية إلى تقبل الألم والفقدان بروح شجاعة وعقل حكيم، وعدم الانصياع لرغبات العالم الخارجي، فالانصياع وراء الحاجات الزائفة، والإفراط في الرغبات الطبيعية البيولوجية يولد في النفس شقاء وألماً، وربما ندماً مستمراً. 
يرى الرواقيون أن الخير الوحيد هو في العمل العقلاني الفاضل المتناغم مع الطبيعة، والشر هو ذلك الفعل المنافي للعقل والطبيعة، أما الأشياء الخارجية  التي  يصنفها الناس على أنها خيرات وشرور، كالمال، والصحة، والمرض، والموت، الألم، اللذة هي أشياء ليست في ذاتها خيراً ولا شراً هي أشياء غير فارقة أي لا يمكنها أن تؤثر في العقل والحالة الداخلية للإنسان.
 لأن الأشياء التي تجري في عالمنا الخارجي من أحداث وظواهر لا يمكننا السيطرة عليها، بل يمكننا السيطرة على النهر المتدفق من المشاعر والأفكار التي تجري في العقل والنفس، لكن هذا لا يمنع من الإقبال على الحياة وعلى الأشياء الفارقة لكن بتحفظ وزهد، بحيث إن فقدانها ووجودها لا يجعلك تقع في فخ الألم والتصنيفات الذهنية 
يقول ماركوس اورليوس في كتابه التأملات" بلا زهو تقبل الرخاء إذ أتى،وكن مستعدا ً لفقدانه إذا ذهب" 
رغم أن ماركوس اورليوس حكم روما وكان يتمتع بجاه ومنصب،إلا إنه ابتلي بنكبات شديدة من انقسام وحروب أهلية وأمراض ألمت بأمبراطوريته المترامية الأطراف،وهو على الصعيد الشخصي أبتلي أيضا بخيانة زوجته، وموت طفلين من أطفاله، وهذا لم يمنعه من أن يعيش حياة هانئة مستقرة عن طريق التسليم والقبول، ووفقا للقاعدة التي تقول أن الأحداث تجري كما ينبغي لها أن تجري دوما، فلا جديد تحت الشمس
وتماما مثله كان ابيكتيكوس فرغم أنه كان عبداً لسيد روماني، إلا إنه كان  حراً في داخله ويعيش في انسجام نفسي متكامل، ففي الحادثة الشهيرة التي قام بها السيد الروماني بكسر ساق ابكتيكوس، تذكر الروايات أنه لم يمنعه أبداً، بل اكتفى بتحذيره عندما قال له: انتبه أنك ستكسر ساقي، وعندما قام بكسر ساقه فعلاً، رد عليه ابكتيكوس: ألم أقل أنك ستكسر ساقي؟.
رغم ذلك ظل ابكتيكوس يمارس حياته بكامل الصفاء والهدوء والشجاعة، فكان يرى أن العرج هو مجرد منع الساق من المشي والجري، لكن الإرادة لا يعتريها العوق ولا والضعف، ما دام الإنسان متوهجا ً بالحياة وفضيلة النفس، فالعالم الباطني هو مصدر السعادة الحقيقية، وليست الأشياء الخارجية.
اللحظة الحاضرة 
تركز الرواقية على اللحظة الراهنة أو الحاضرة، بوصفها حقيقة يمتلكها الإنسان، عكس الماضي والمستقبل، اللذان ينفلتان من وجود الإنسان الحقيقي إلى الوجود الوهمي في العقل.
وتدعو إلى تقبل هذه اللحظة بكل ما فيها من آلم أو لذة، ونبذ أي استجابة في العقل للأشياء التي حدثت في الماضي، أو التي قد تحدث في المستقبل.
 فأغلب انفعالات النفس تأتي من تمازج هذان التياران في العقل والنفس فتولد مشاعر الألم والإحباط والمعاناة من الماضي، والتوتر والخوف من المستقبل، ومن ضمنها الموت الذي يعلمنا الرواقيون كيف نتصالح معه، بوصفه تبدلاً في العناصر، ما يلبث أن يتمظهر في دورة حياتية جديدة، فليس في الموت ما يروع الإنسان سوى حكمنا عليه وما تراكم من خبراتنا ومعارفنا الموروثة، وكذلك هي الحياة كما الموت، فالموت يتخلل الحياة، والحياة تتخلل الموت، وكلاهما يتجلى في الآخر
يرى ماركوس اورليوس أن الوجود   عبارة عن تغير وصيرورة، والتغيير هو أسلوب الطبيعة في عملها، فالطبيعة تنشغل بأن تحول الواقع إلى آخر، وأن تأخذ الأشياء من هنا وتضعها هناك، فما يكاد شيء يظهر للعين حتى ينجرف بعيدا ً إلى الماضي،ويحل غيره محله.
لذا يدعونا إلى أن نتأمل بعمق وحكمة هذا التغيير،وأن نتقبله حتى لو كان يجري على ذواتنا وفي نطاق حياتنا اليومية، فما يحياه الإنسان هو نتاج أفكاره وتصوراته،وليس  ما هو كائن في الطبيعة والأشياء، ما أعظم أن يتعرف الإنسان إلى ذاته الحقيقة، وإن يلوذ بحصنها ساعة الإنكسارات والخيبات المريرة. 
إذن لماذا نخشى الموت ولم نبدأ الحياة بعد؟ 
هل حقا ً ما زالت الحياة هنا...
أم أنها في مكان آخر ؟؟