في الرياض مجتمع يصنع مستقبله بهدوء

المجتمع السعودي يتحدى نفسه قبل أن يتحدى العالم.

يوما ما ستكون العاصمة السعودية مدينة أبراج. إلى أن يأتي ذلك اليوم فإنها بالنسبة لي لا تزال المدينة التي يتمكن المرء فيها من التمتع بتجليات المشاهد الفضائية. أقصد الشمس وملحقاتها. وهو ما صار يشدني إلى المدن العربية التي أزورها. هناك خصوصية مستلهمة من الطبيعة. عناصر تلك الخصوصية ستظل آسرة لأجيال تربت على الضوء النقي والشفاف والعميق. لا يزال الضوء يتسكع في شوارع الرياض باعتباره أجمل هباتها. ولكن من يقترب من السعوديين لابد أن يكتشف سحر أشياء أخرى تبدأ بالعقول ولا تنتهي بالعاطفة. ولأني لا أرغب في أن أكون سائحا في أية مدينة عربية انطلاقا من كوني ابنا لكل تلك المدن فقد وجدت عقول السعوديين مفتوحة لي مثل أبواب بيوتهم.

لا أعتقد أن تجربتي تختلف عن تجربة أي عربي زار الرياض بقلب مفتوح من غير خشية ولا تردد ولا توجس. ما على زائرها سوى أن يثق بها ويطمئن ليدها الممدودة له حتى يجد الطريق سالكة أمامه إلى عقلها وقلبها. وفي الحالين يكتشف حيوية مفاجئة هي سر ذلك الحراك الإبداعي الذي تعيشه مدينة صارت تستمد عناصر مستقبلها من عزم إنسانها على أن يصنع عصره الجديد. كنت محظوظا إذ تزامنت زيارتي مع احتفالات المملكة بمرور ثلاثة قرون على تأسيسها. وهو ما أضفى على الحدث الفني الذي أتيت من أجله طابعا خاصا. معرض صديقي الفنان المصري الكبير عادل السيوي في قاعة إرم صار أشبه بالنافذة التي أطل منها على مشاهد حضارية ومدنية، اعترف أنني لم أكن أتوقع أن أراها في الرياض، العاصمة العربية الوحيدة التي لم أزرها من قبل.

كنت متأكدا بأنني سأحظى بلقاءات إنسانية رفيعة المستوى وباحتضان أخوي هي جزء من السلوك العفوي البعيد عن التصنع. فالشخصية السعودية التي عرفتها عبر تجربة حياتي شخصية كريمة، أبية، عزيزة النفس وكبيرة في عطائها. غير أن المفاجئ فعلا أن يأخذ برنامج العمل الذي أعلنه الأمير محمد بن سلمان طريقه من المجال السياسي إلى المجال الاجتماعي بسرعة قياسية، بحيث يرى المرء مجتمعا لم يكن يتوقع رؤيته. كل الذين التقيتهم من الأخوة السعوديين لم يخفوا حماستهم للتحولات التي يشهدها مجتمعهم. ذلك لأنهم يرون فيها مرآة لحقيقة مجتمع كان في انتظار إشارة الانطلاق. لذلك لم يكن التحول انقلابا مفاجئا بقدر ما هو استجابة لحراك ثوري، هو استمرار للحظة التأسيس.

"يوم بدينا. ثلاثة قرون من العز والفخر" قرأت تلك الجملة على ملصق في غير مكان من الرياض. وإذا ما تأملنا بالعين المحايدة الطريقة التي يعبر من خلالها المجتمع السعودي عن حيويته فإن ذلك الشعار يعني الحاضر أكثر مما يشير إلى الماضي وإن يحرص على الإبقاء على خيط الارتباط التاريخي مشدودا بإحكام. لقد بدأت المملكة وهي تبدأ من جديد في كل لحظة تحول. ليست الحكمة في النظر إلى الماضي، بل تكمن الحكمة في مواجهة الماضي بأدوات الحاضر لا من أجل القفز عليه، بل من أجل تأكيد قوة الفكرة التي يستند عليها. وهي فكرة التأسيس. مَن يرى الرياض اليوم ويعيش أجواءها ويحاور أبناءها لابد أن تُدهشه فكرة التأسيس التي صارت بمثابة منطق تجتمع من حوله رؤى متغيرة. فالسعودي المعاصر لا ينظر إلى العالم باعتباره مقياسا لعلاقته بالحياة بقدر ما ينظر إلى نفسه وهي تخوض غمار التجربة. يقول لك "نحن بدأنا منذ ثلاثة قرون وها نحن نبدأ من جديد".

كل ما رأيته وكل ما سمعته وكل ما أحسست به في الرياض هو تجسيد لعالمية بمزاج سعودي.

ولأن السعوديين متواضعون في إقبالهم على الفهم في ظرف سياسي عالمي يحيطهم بسوء الفهم فإنهم يعرفون أن أسلحتهم الناعمة تكفي لصنع حضارة تشبههم. حضارة من طراز خاص. لقد أطلقت المملكة العربية السعودية بتأثير من قرارات أميرها الشاب قواها الثورية التي اختصرت المسافة ما بين ما هو نظري وما هو عملي. تلك معجزة سعودية يجدها زائر عابر مثلي مجسدة في مكان وزمان قد لا يعثر عليهما مرة أخرى. ومثلما جدد السعوديون المكان الذي اكتشفوا فيه أثاثهم الروحي فإنهم جددوا زمانهم فصاروا يحتفلون بالماضي في اللحظة التي يحتضنون فيها المستقبل. لقد رأيت مجتمعا يقوي صلته بالحاضر كما لو أنه يولد في كل لحظة.     

هذا مجتمع يتحدى نفسه قبل أن يتحدى العالم.