في كتابه "الحداثة التشكيلية العراقية" إسماعيل زاير يترافع عن الانقلاب اللوني

كان زاير شغوفا بالفن التشكيلي، وقادراً على تمييز الأعمال الفنية الجيدة، ويعمل على جمعها، ودائم الحديث عن الفنانين والاتجاهات الفنية.

يحتاج الولوج إلى عالم الفن التشكيلي مفاتيح عدّة، وأدوات مختلفة، كونه عالما غير منفتح أمام الجميع، بل هو عالم يميل للانغلاق ويتصل بمن يفهمونه فقط، ومن هذا المنطلق نجد أن الذين يخوضون في تجارب التشكيليين عددهم أقل بكثير ممن يخوضون في الأدب على سبيل المثال.
بين يديّ كتاب جديد صدر عن مؤسسة الصباح الجديد للنشر بعنوان الحداثة التشكيلية العراقية / طيران مبكر فوق سماء مضطربة لمؤلفه الكاتب الصحفي والناقد التشكيلي الراحل إسماعيل زاير الذي قامت عائلته بتبني طباعته نظراً لاكتنازه بمادة نقدية تشكيلية تحتاجها المكتبات العراقية.
في مقدمة هذا الكتاب التي كتبها الباحث والوزير السابق عبد اللطيف جمال رشيد كانت هناك مفردات وفاء عذبة من الكاتب تجاه الراحل إسماعيل زاير حيث يقول في تلك المقدمة " كان إسماعيل زاير شغوفا بالفن التشكيلي، وقادراً على تمييز الأعمال الفنية الجيدة، ويعمل على جمعها، ودائم الحديث عن الفنانين والاتجاهات الفنية، وعملنا معاً على التواصل مع الفنانين التشكيليين سواء المقيمين خارج العراق أو داخله، وحاولنا جذب أنظار مؤسسات النظام الجديد للإهتمام بهم وبالفن التشكيلي".
وفي مدخل الكتاب الذي حمل ذات العنوان على الغلاف يتحدث إسماعيل زاير عن الحداثة الشعرية وبزوغ أجيال جديدة من الفنانين التشكيليين، بعد أن كانت ريادة الحداثة في العراق تنحصر في نخبة قليلة من الفنانين المبدعين، ويشير إلى ضرورة تعريف معنى "الحداثة التشكيلية".
يقول زاير في هذا المدخل ما نصه "رغم مرور أكثر من خمسة عقود على انطلاقة الفنون التشكيلية العراقية، ما تزال هناك حاجة ماسة وملحة لوضع تعريف لمفردة" الحداثة التشكيلية" بما يسمح لإدراك ماهيتها وما نقصده عندما نتطرق إليها كمعطى لا غنى عنه للجدل الفني أو الممارسة المباشرة.
في مدخل آخر يتحدث المؤلف عن عقد الخمسينيات و"الإنقلاب الملوّن" حيث يسحبنا إلى مناطق تاريخية عدة بما يشبه السياحة التشكيلية، مستشهداً بتجارب فنية تاريخية، ومترافعاً عن الانقلاب اللوني.

ينصب زاير نفسه محاميا أو متذوقا أو مهندسا معماريا فنيا يمد الجسور بين الريادة والحداثة

السياسة واللون
زاير لا ينسى تأثير السياسة على الفن التشكيلي حيث يورد ذلك في مدخل آخر وضع له عنوان بين السياسي والفني: الجدل المختل. ويقول "يكفي إلقاء نظرة واحدة على تاريخ التشكيل ووثائقه وتجلياته، لنستنتج كم أثرت تلك المناخات السياسية على التجربة التشكيلية العراقية التي لم تزل فتية، وحرّفت تطورها الطبيعي".
وفي متن آخر يؤكد المؤلف على أن السياسة أثرت بالسلب على المنجز التشكيلي العراقي نتيجة لجوء بعض الفنانين إلى تغيير أساليبهم خوفاً من القامع السياسي والثقافي في آن واحد، حيث يقول زاير"السلطة السياسية الحاكمة أسست نظاماً صارماً يحدد للفنان مواضيعه الفنية ومناسبات عرض أعماله التي تعبر عنها".
دفاعاً عن الريادة
في أكثر من مساحة في كتابه، يقف إسماعيل زاير مدافعاً عن الرواد الذين صدقوا بحداثتهم التشكيلية، منصباً نفسه المحامي المتذوق أو المهندس المعماري الفني الذي يمد الجسور بين الريادة والحداثة، وهذا لمحته في فصل آخر من كتابه جاء بعنوان حداثة الرواد: ترسيخ حرية الفن والبحث عن هوية.
 ومن العنوان نلحظ الجسر الذي يريده زاير حيث يقول "كان فائق حسن يتطيّر من أية مرجعية مسبقة للفن والعمل الفني، ويركز مسعاه على التجربة الحسّية الفطرية النقية والمتحررة من أي تخطيط أو هدف فني أو تقني مسبق، سواء أكان ذلك بصدد الموضوع الفني أم المواد والتقنيات، حتى أنه أطلق اسم البدائيين أو الفطريين على جماعته".
وفي عتبة أخرى من هذا الكتاب نجد المؤلف مترافعاً عن ريادة الفنان الكبير الراحل جواد سليم وعن نصبه الشهير ساحة الحرية حيث يقول زاير "منح جواد سليم عمله الشكل المعاصر: دون أن ينسى روحه المحلية المتجذرة، وبوسعنا الملاحظة أنه ما كان بالإمكان أن يتشبّع العمل بهذا المقدار من النور لولا أن يكون مبدع العمل شرقياُ".
المنفى والتشكيل
في أكثر من مدخل أو إطار داخل الكتاب يحاول المؤلف الخوض في منطقة شائكة جداً، وهي منطقة الحديث عن المنفى وتأثيره على الإبداع، حيث وضع عناوين عدة لمناقشة هذا الواقع المؤثر الذي هو على تماس معه كونه عاش المنفى بنفسه.
ومن تلك العناوين التي وضعها زاير حداثة مشرقية في بيئة غربية والفنان العراقي والمنفى السياسي والمنفى الشرقي: هموم الموجة الثالثة والتشكيل العراقي في أوربا والغر: جدل بين ذاكرتين.
 ومن بين هذه العناوين أستلّ لكم قول زاير "واجه الفنانون العراقيون أثناء انتقالهم للمنفى الأوربي مشكلات وتحديات مختلفة على نحو كبير مما واجهه أقرانهم في المشرق العربي، ومع تكريس وجودهم في القارة الأوربية، نحا الاختلاف والتنوع نحواً متشعباً واسعاً، اعتمد على شخصية الفنان أكثر مما على أي عامل آخر، غير أن ذلك لا يعني عدم وجود عوامل وحيثيات مشتركة في أوضاعهم".

يأخذنا زاير إلى حيث تجربة الفنان ذي الصيت العالمي محمود صبري، الأكثر تميزاً بين أبناء جيله من خلال تبنيه الانقلاب اللوني

إضاءات ضياء العزاوي
تتناسل العتبات التي يشتغل عليها مؤلف الكتاب، فهو يتتبع خطوات المبدعين العراقيين في المشهد التشكيلي العراقي، ويتابع المشهد بعين المتبصر المراقب، وهاهو يقترب من تجربة إبداعية كبيرة متمثلة بالفنان المبدع ضياء العزاوي حيث يضع بعض ملاحظات أولية عن تجربة هذا المبدع إذ يقول "لقد نظر ضياء إلى إشكالية المعاصرة والمحلية بجدية فائقة تعكسها كلماته التالية: لا يمكن إضاءة الماضي إلا بالاستناد إلى بحثنا الراهن وعلى ذلك له الاندغام في الحركة الفكرية والمنهجية والحسية التي يعتمد عليها حسم تلك المعضلة".
رافع الناصري والصدمة
ومن ضياء العزاوي إلى رافع الناصري يسحبنا المؤلف لتجربة تشكيلية مهمة وراسخة في الذاكرة الجمعية للمتلقي، حيث نجده وقد توغل بهذه التجربة برؤية متفحتة وقراءة واقعية تليق بالناصري حيث يكتب زاير ما نصه  "ينطلق الفنان رافع الناصري من قناعة مركزية، لها روح الصدمة بالنسبة إلى كثير من "الكليشيهات" السائدة والمقولات التي دأب العرض التشكيلي على ترديدها والتبشير بها".
حيوية محمود صبري
سنابل قمح التشكيل العراقي التي يحصدها إسماعيل زاير لها أكثر من حقل، حيث يأخذنا هذه المرة إلى حيث تجربة كبيرة نالت الثناء المحلي والعربي والعالمي والتي تتمثل في الفنان الكبير محمود صبري أحد الفنانين الأكثر تميزاً بين أبناء جيله من خلال تبنيه الانقلاب اللوني الذي يترافع عنه زاير بالقول "يعد محمود صبري أحد أبرز وألمع الرواد الذين أرسوا أسس الحداثة التشكيلية في أيامها المبكرة، وارتبطت سيرة الفنان مع جواد سليم ورفعت الجادرجي وفائق حسن وأكرم شكري وقتيبة الشيخ نوري وغيرهم، وتميزت تجربته بالحيوية الفنية والفكرية منذ الخمسينيات".
أمكنة جبر علوان
جبر علوان اسم لا يمكن إغفاله في المشهد التشكيلي العراقي، فهو صاحب تجربة وصلت للعالمية عبر انقلاب لوني كبير، تجسد بأعماله الخالدة، ولذلك لا يمكن أن يتجاوزه مؤلف الكتاب، وهو القريب منه بحكم علاقة وثيقة تجمعهما، وأقصد أحد ثوّار الانقلاب اللوني الفنان الكبير جبر علوان حيث كتب زاير ما نصه "جبر علوان لا يقدم لوحة تجيب مباشرة، فهو يتمسك بقدر ملموس من التواصل مع أسلوبه،  أو ماضيه بالأحرى،  إلا أن أعماله المتأخرة تصبّ أكثر من سابقاتها في مواقع الاستجابة لمطالب العرض، وبما يناسب الذائقة التي يتبناها المكان".
كربلاء فاضل نعمة
وإلى الذاكرة الخصبة والنوافذ المستقبلية يجرّ أعيننا المؤلف إلى تجربة تشكيلية أخرى عبر آفاق مختلفة تحملها تلك التجربة، كون المؤلف لا يتوقف عند منحنيات، بل يمارس الدوران على محيط المشهد التشكيلي العراقي بالحداثة التي يريدها ماثلة أمام المتلقي.

الحضور الكردستاني أجاد هو الآخر لعبة الانقلاب اللوني من خلال الفنان آزاد ناناكلي 

 وها هو يذهب بنا إلى عالم مميز آخر هو عالم فاضل نعمة حيث يكتب زاير عنه بالقول "في كل انتقالات فاضل نعمة عبر المكان ورحلاته ومنافيه، جال قارات عديدة قبل أن يستقرّ ويحطّ الرحال في هولندا، ولكنه جرجر في كل تلك الأمكنة إرثه المكاني وبيئته الإنسانية، وتمشّط دهشته الطفولية بالمحيط الكربلائي، إلى قدر لا يمكن أن نخطئ انعكاسه في كل لوحة".
حضور كردستاني
للجبل في ذاكرة المؤلف صور لا يمكن أن تمحى، فهناك عاش سنوات حلوة ومرة، وحتماً له تلق خاص للتشكيل الكردستاني، حيث حرص مؤلف الكتاب أن يوظف تجربة عراقية أخرى قادمة من شمال الوطن.
 وقد اختار فناناً يجيد لعبة الانقلاب اللوني، وتميز بها ليس على مستوى كردستان، بل صار يحمل صبغة العالمية، ولذلك اختار زاير الفنان آزاد ناناكلي ليقدمه على أنه المتمرد على الهوية والمرجعيات الفنية، وعنه يقول المؤلف "بقي آزاد ناناكلي على الدوام محتفظاً بأفضلية فنه على غضبه وانحيازاته الإنسانية، ورسم من دون أن يسمح لكل ما هو خارج عن الفن أن يدسّ نفسه في سياق عمله، أو يغطي ملامحه بسمات المباشرة والخطابية العابرة".
جسر منقذ سعيد
محطة النحت لا يمكن أن لا يتوقف عندها مؤلف الكتاب إسماعيل زاير، فهو العاشق أبداً لهذا الفن العظيم الذي وثّق أكثر من غيره للحداثات المتناسلة في العالم، ولكونه يعشق الغرائبية، توقف المؤلف عند تجربة غرائبية خالصة تتمثل بالنحات الكبير منقذ سعيد صاحب المواهب المتعددة .
وكتب عنه زاير ما نصّه "أول مرة شاهدت فيها إبداع منقذ سعيد كانت في بيته، في دمشق عام 1979 ويا له من بيت غريب، كنا نمرّ تحت هيكل عملاق يشكّل جزءا من منحوتة يعمل عليها، قاعدتها في الأرض ونصفها في السماء، كان جسراً عملاقاً، يتسلقه بشر عراة، منهمكون،  بالكاد يصمدون على درجاته .. كان ذلك الجسر أحجية منفذ السرمدية، وأظنه لم يعبره قط، ولم يعرف أين يكون منه..".
خاتمة المرافعة
الكتاب الذي أستعرضه لكم يحمل في طياته أكثر مما استدلت عليه ذائقتي، ولذلك أعتقد جازماً أن غيري من الذين سيطلعون على محتواه، سيجدون وعبر ذائقتهم، مواطن إبداع كبيرة تلاقفها المؤلف، لذلك سأكتفي بهذا القدر من العرض، لأترك للآخرين حق الاستمتاع بكتاب يستحق أن نقف قبالته طويلاً، كونه أخذنا بجولة سياحة تشكيلية معاصرة وحداثية، تليق بالفن التشكيلي العراقي، والحداثة التي ترافع عنها كثيراً مؤلف الكتاب المبدع الكبير الراحل إسماعيل زاير.
 فهذا الكتاب يعدّ إضافة مهمة للنقد التشكيلي العراقي، ومطبوع تحتاجه فعلاً المكتبة العراقية والعربية، ويصلح حتماً لأن يكون مصدراً للباحثين والمتناولين والمتداولين للبحث الأكاديمي المختص بالشأن والمشهد التشكيلي العراقي، خصوصاً بسبب ندرة المصادر التي تتناول قراءات الحداثة التشكيلية العراقية منذ نشأة الفعل الريادي وحتى يوما هذا، ففيه محطات نجهلها ولم نتوقف عندها بسبب الندرة التي تكلمت عنها، وأقصد ندرة الخوض في النقد التشكيلي المعاصر، على مستوى العراق والوطن العربي.