قانون هجرة الأفكار الفائقة

نحن في حاجة إلى وقفة لنقارن ماذا تفعل الشعوب الأخرى وما نفعله نحن.

هكذا أصبح المواطن محاصرا بغير قيود أمنية أو قوانين قسرية تفرض حواجز مادية بعينها بينه وبين حريته، هكذا فعلت الكورونا بنا في بضعة أسابيع منصرمة وأخرى تجيء، وفي ظل حمى متسارعة من التصريحات الصحية التي باتت بالفعل خائبة وتدعو إلى الإحباط والاكتئاب أكثر مما تدعو إلى الطمأنينة أصحبنا في فلك النصائح الواهمة التي تدغدغ المشاعر بأن الشفاء أصبح وشيكا رغم ما تفعله بعض الدول الأكثر وباء وإصابة بالفيروس بأنها في الطريق إلى إعلان الاستشفاء التام، نلجأ إلى وصايا الفيسبوك غير المعتمدة طبيا، ونسارع صوب بعض الأقارب الأكبر سنا وخبرة غير علمية أيضا لمعرفة كيفية مزج الكلور بالخل الأبيض غير النقي أيضا من أجل تطهير المنازل.

وسط هذا التصارع الكيميائي، كانت النصيحة لابنتي خديجة وعائشة وهما تستعدان إلى النوم مبكرا في ظل غياب مدرسي حزين، أن العلة والحكمة من وراء هذا الخوف والقلق الشديد من أننا نرجع قليلا للوراء من أجل تدبر أمورنا الدينية والدنيوية أيضا، أما الدينية فالله وحده أدرى وأكثر علما بعباده الصالحين منهم والمخطئين والخطائين أيضا، والدنيوية فالمشهد الراهن أبصرنا بحقائق كثيرة أبرزها الحالة العلمية الحقيقية لكلياتنا العلمية والطبية التي أفرزت أجيالا من التجار لمعالجة الأمراض لا الوقاية منها، وأنتجت عشرات المراكز البحثية العلمية بمئات الباحثين الأكاديميين الذين يمكن الاستغناء عنهم بتوقيع واحد في وقت زمني قصير لأنه بالفعل كتبوا شهادات وفاتهم العلمية وسط هذا الفشل والفوضى التي نحياها.

كان الدرس لابنتي هو تصحيح المسار العلمي والصحي والتعليمي لا الاكتفاء بالشعارات التي نرددها صباح مساء بغير فائدة أو تطبيق مباشر لها،والاهتمام بتجارب الدول الرائدة الحكيمة التي سبقت شعوبنا العربية، والتي أخلصت العمل في قطاعات التعليم والصحة، ورغم ما مر بنا جميعا من محنة فإن تجارب الأمم تظل رائدة وكاشفة لنا.

وإذا كنت عزيزي القارئ من هواة الاستماع إلى الحكايا قبل النوم فإن هذا المقال لا يهتم بك في الأساس، أما إذا كنت من أولئك الذين يطمحون في التميز والانفراد والترقي فهذه السطور خُصصت إليك وحدك دون غيرك من المتهوكين والذين استمرأوا اللامبالاة والميل إلى استخدام العبارة المصرية الشهيرة "سوف أعيش مثلما كان أبي يعيش!"

والحكاية من اليابان وهي ليست خرافية وإن كان مدلولها تخييلياً بالنسبة للعقلية العربية التي استسلمت للتشابه دون الاختلاف المتميز، ففي عام 1868 أقسم امبراطور اليابان مييجي الذي حققت البلاد في عهده سقوط النظام الإقطاعي، وانتهاء حكم شوجونات، وهي أسرة توكو جاوا التي ظلت تتوارث السلطة الحقيقية في البلاد لمدة مائتين وخمسة وستين عام، أمام شعبه نص القسم الرسمي بأن يعمل على تغيير الشعب ويعمل على إصلاحه، وكان في نهاية القسم عبارة أخيرة بليغة لا يمكن ألا نتوقف عندها بالصمت والتدبر ولو لبرهة قصيرة، هذه العبارة هي: "سنبحث عن المعرفة في جميع أنحاء العالم".

ومنذ قسم الإمبراطور أصبحت سياسة اليابان مختزلة في تعلم كل ما يمكن تعلمه من الشعوب الأخرى، وهذا يجعلنا ندير أذهاننا للخلف من أجل تذكر حقيقة تاريخية معروفة عن اليابانيين مفادها أنهم شعب يعتز بنفسه لدرجة أنه لا يقبل وجوده في موضع التلميذ أمام أستاذه الأجنبي مهما كان سيعلمه هذا الأستاذ من معارف ومعلومات ذات قيمة عالية، لكنها اليابان التي نراها اليوم فائقة في كل شئ ولا تماثل أحداً لأن الأحد هذا بالقطع يصعب وصوله إلى الدرجة التي يقف عليها هذا الشعب الاستثنائي.

واليابانيون ظلوا عقوداً بعيدة قبل قسم الإمبراطور مييجي لا يثقون في الأجانب بل وصل الأمر بهم إلى حد الكراهية والاستعداء أيضاً، لكنهم أقوياء العزيمة والإرادة ولأنهم صادقون في التغيير قرروا تنفيذ العبارة التي اختتم بها الإمبراطور قسمه. ولكن تبقى معلومة مهمة أو لربما تكون هي المعلومة الأهم ونحن بصدد الحديث عن تولي مييجي عرش اليابان وهي أن الذين قرروا تبني سياسة التغيير وتعلم المعرفة والبحث عنها في كل بقعة من بقاع الأرض كانوا قليلين، هكذا هو حال من يصنع التاريخ ويسجل اسمه بحروف من نور في كتاب الإنسانية، أما هؤلاء الذين يتشابهون في اللون والطعم ونسبة الكراهية والرتابة أيضاً فهم كثيرون جدا مما يجعل الأمر صعباً في عد أسمائهم وذكرها من ناحية، وفي استضافتهم ولو بصورة مؤقتة في سجلات التاريخ من ناحية أخرى.

ويروي جيلبرت هايت في كتابة الماتع "هجرة الأفكار" قصة أحد العقول النافذة التي اهتمت بالبحث عن المعرفة من أجل تغيير اليابان، حيث الشاب اليافع هيرو يومي إتيو الذي أقنع سيده الإقطاعي الذي كان يدعى كوشو بأن يهجر السهام والأقواس التقليدية ويستخدم البنادق والمدافع، وبسبب ذلك ارتكب وأربعة آخرين جريمة قتل كانت عقوبتها الإعدام، لكن هؤلاء الشباب رحلوا بعيداً فقضوا سنة كاملة في لندن، وفور عودتهم للبلاد أصبحوا زعماء للحزب التقدمي هناك.

وفي عام 1882 تم تكليف هيرو يومي إتيو بإعداد دستور لليابان التي لم تكن تعرف من قبل الدستاتير ولا غرابة في ذلك فمصر نفسها صاغت أول دستور لها في السابع عشر من سبتمبر عام 1882 في عهد الخديوي توفيق، أما اليابان فكانت قبل دستورها الذي سيعد تعيش في ظل فوضى العصور الوسطى، وتحيا ممزقة بفضل الحروب الأهلية الطاحنة، ومقهورة بسبب ديكتاتورية الحكام.

المهم أن إتيو هذا اصطحب معه عدداً من الشباب المتلهف للمعرفة والبحث وطاف معهم عدداً كبيراً من البلدان الأوروبية من أجل تعرف دساتير العالم ونظم الحكومات الدستورية، وبعد سبعة أعوام كاملة أي في سنة 1889 استطاع إتيو بعد مناقشات وحوارات تمهيدية طويلة جدا أن يقدم دستور اليابان الجديد للإمبراطور الياباني. اليابان هي الدولة الاستثنائية الوحيدة فعلا التي أفادت من بعثاتها التعليمية بعد مشروع محمد علي باشا في مصر والذي أجهض بسبب تركيا التي طلت مجددة على المشهد المصري الداخلي وكأن مصر سببت لها عقدة تاريخية مزمنة وعصية على العلاج، لكننا مصابون بفقدان الذاكرة وليت المصريين يدركوا أن تركيا هذه هي التي وقفت بالمرصاد إزاء مشروع محمد علي النهضوي والذي سعى فيه إلى استقلال مصر التام والكامل وإلى نهضة تعليمية تمثلت في المدارس والمدارس العليا والتوسع النسبي في التعليم الأزهري، لكن ظلت تركيا تسعى لإجهاض أية محاولات ترمي إلى قوة مصر وإضعاف الحكام بالقوانين والشروط وغض الطرف عن قصد وعمد تجاه ممارسات الطامعين في مصر المحروسة.

لكن اليابان استطاعت أن تتجاوز محنة محمد علي فلما أوفد اليابانيون بعثاتهم إلى أوروبا لجأوا مباشرة عند عودة تلك البعثات إلى إنشاء وإقامة ترسانات عسكرية برية وبحرية ومدارس للتدريب العسكري، في الوقت نفسه الذي لجأوا أيضاً إلى ترجمة كل ما تقع أعينهم عليه من كتب وأوراق حتى قصاقيص الورق، ويكفي أن يذكر كتاب التاريخ كيف استطاع جيش مكون من الفلاحين والعمال والفقراء في تحطيم الأسطول الصيني الرهيب.

ومثلما فكر اليابانيون في إرسال بعثاتهم إلى أوروبا استقدموا 1200 أميركي بهدف التعلم على أيديهم في كل المجالات، ولأن هذا الشعب قرر بالفعل التغيير، ارتضى طواعية لأن يغير لقب المستأجر الأجنبي من اسم "ياتوي" إلى اسم "أو ياتوي" الذي يعني الأجانب المستأجرين الأجلاء، هكذا كانوا يرون معلميهم وأساتذتهم، ولك أن تعرف كم كان اليابانيون ولا يزالوا متلهفين على المعرفة والنيل من مصادرها الأصيلة الرئيسة.

ورغم أن اليابان سمحت بهجرة الأفكار إليها إلا أنها ظلت محتفظة بطابعها الخاص وهذا سر تميزها وتفردها حتى لحظتنا الراهنة، بخلاف تركيا على سبيل المثال التي لا تزال تبحث عن وجه لها، فبعد أن كانت مهد الخلافة العثمانية قبل أن تستحيل رجلاً مريضاً مسكيناً يستدر العطف والشفقة من الدول المجاورة، وكادت تصبح فريسة على موائد المفاوضات والمؤتمرات التي ناقشت المسألة التركية منذ سقوط معظم البلدان التي كانت تحت خلافتها في أيدي المستعمرين والمتآمرين وخونة الأوطان، قررت ـ تركيا ـ أن تلحق بقطار أوروبا السريع الذي يتجاهل القوميات والوطنية واللغات الأصلية والعادات والتقاليد والأعراف المميزة للشعوب، فكان القرار الرسمي المفاجئ هو أن تتحول تركيا إلى شعب عصري غربي، لاسيما وأن أوروبا ظلت لقرون ترى تركيا صورة مماثلة للهمجي غير المتحضر، فكان التغيير المرادف للسقوط، وكان التحول بالفعل بين عامي 1925 و1934، فأدخلت الحروف اللاتينية في تركيا، ومنذ عام 1928 لم يطبع كتاب واحد في تركيا باللغة العربية لأنها في نظر الأتراك التي ترائي وتنافق الغرب الأوروبي لغة الجهل والتخلف، ولم تكتف تركيا بهذا القدر لمهادنة أوروبا العلمانية، بل ألغت نظام تعدد الزوجات، وتم منح النساء لأول مرة الحق في التصويت، ثم إلغاء القانون التركي ذي الصبغة الإسلامية ووضع قانون مدني جديد غرار القانون السويسري، أما اللغة الإنجليزية وليست العربية فصارت اللغة الرسمية الثانية في البلاد.

وكأن تركيا قررت بالفعل الانسلاخ جملة واحدة من تراثها الإسلامي، وأن كل خروج عن التاريخ العربي الإسلامي هو قرب ومودة تجاه الغرب الأوروبي الذي لا يزال حتى وقتنا يمتقع للوجود التركي في مؤسساته ومنظماته الدولية.

فرق كبير بين شعب عظيم قرر أن يتغير وسمح لهجرة الأفكار أن تطير فوق أراضيها دون خلل بالموروث الثقافي، وبين شعب ضارب في القدم إلا أن لا وجه له فصار ممسوخاً غير أصلي، وفرق بينهما وبين شعب كالمصريين، سبات عميق ويقظة أقل، وحلم يطول، فها آن الوقت من استفاقة قبل نوم طويل؟