'قلق عتيق' ينفض الغبار عن عراق الستينات

الجزء الثاني من رواية علي لفتة سعيد يسلط الضوء على صراع عاصرته مدينة عراقية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث إبان انتهاء الحكم الملكي في حقبة صارت قطب الرحى في البنية المجتمعية والفكرية للبلاد.

انّ العنوان الرئيسي للنص الروائي هو البوابة الأولى والواسعة التي من خلالها ندخل الى حرم وقدسيّة هذا النص السردي ومن خلاله سنتعرّف على ما يريد الكاتب قوله وتوصيله الينا، اي أنّ العنوان الرئيسي هو النواة الأولى التي ستنشطر فيما بعد الى وحدات أصغر وهذه بدورها ستكشف لنا عن مقدرة هذا الكاتب الإبداعية ومن خلال ذلك سنتعرف أيضا على شخصية الكاتب وقيمة النصّ والأجواء النفسيّة التي كُتبتْ هذه الرواية تحت تأثيرها والبيئة التي انبثقت منها واهتمامات الكاتب وثقافته وجمالية العمل ورساليته، اذا العنونة هي من الأسباب التي تجعل هذا العمل يمتلك خصوصية هذا الكاتب ومن مبتكراته وخلقه.

أخذنا الكاتب الى عوالم مليئة بالتشويق وبالإثارة، نص روائي سبر غور الزمن الماضوي. ومن الجدير ذكره أن التكنيك الذي لجأ اليه الكاتب بالحصول على سيرة تاريخية من تاريخ العراق السياسي، تعود بنا من خلالها إلى حقبة تكشف النقاب أمام القارئ.

كشف عن حقبات وصراعات ماضوية الاحزاب السياسية وعبر قراءاته لواقع مغرق بالوعي والثقافة لمدينته "سوق الشيوخ" وما يشكله ذلك من التفاعلية في المشهد السياسي العراقي .

وهنا تضعنا الرواية أمام حالة تثويرية تسعى لنفض غبار التاريخ عن حقبة سياسية صارت قطب الرحى في البنية المجتمعية والفكرية للعراق. الرواية تتحدث عن أحداث تموز/يوليو 1958 حتى أحداث عام 1963 أو ما يعرف بانقلاب شباط.

رواية نجد فيها رائحة السيرة عن بعض الشخصيات الحقيقة والفاعلة، حيث أن الأحداث تم بشكل متسلسل لتكشف طبقات المجتمع وتسليط الضوء على "الهامش" وعلاقاتها الثقافية كذلك تسرد الرواية حياة تلك الطبقة بتفاصيلها وطبيعة تفكيرهم الناتجة من صلف العيش والكفاح من أجل توفير أبسط مستلزمات الحياة، حيوات تحكي يومياتها، الراوي عبر إمكانية السرد المتقن اختار أن يسرد أحداثها ويكشف دقائق الأمور من حوادث جانبية، وقد غلّب الزّمن الماضي ما بدا متناسبا جدّا مع النّسق السّردي الّذي اعتمده.

نقول ان هذا الشّعب عاطفيّ بامتياز فبقدر ما يحقد على الطّغاة، بقدر ما يكون مستعدّا ليغفر لهم عن طيب خاطر في وقت شديد الحساسيّة وفي ظروف لا يعلمها إلّا الله، قد تخطئ وأحيانا يستدعي الخطأ أخطاء أخرى تتناسل باطّراد، لتجد نفسك في الأخير أمام حصيلة معتبرة من الأفعال والجرائم الّتي تدينك، فلا تعرف كيف تدفع بها عنك.ومع ذلك لا يلبث هذا الشّعور أن يسقط عندما لا يصل بصاحبه إلى أقصى درجات النّدم.

وهنا يتجلّى للقارئ من خلال النّص بأنّ الكاتب يقرأ الأحداث بعيون ثاقبة، كاتب مجيد يدرك جيّدا عمّا يتحدّث ولمن يكتب ولأجل ماذا يكتب التزامه بقضايا عصره ووطنه أيضا.

تبدأ الرواية بسقوط مدوي للملكية وتبدأ مرحلة التكالب على السلطة ويتحوّل أحد العتّالين الى مطرب الثورة في الاذاعة ببغداد و"الشيخ نعيم، يعود الى رشده وينتمي الى أحد الأحزاب، وتستمر الرواية بسردها المتناوب من خلال لغة منمقة اتخذت أسلوب السهل الممتنع لتنعش ذائقتنا التي استلبتها الكآبة بمعادل "الغناء" حيث يبدأ الأبطال الثلاثة بالغناء على ضفة نهر الفرات، للتعبير عن مأساتهم، وحياتهم، وحبهم الفاشل الذي يتوزع بعده الى حبّ العلاقات الاجتماعية وحب الوطن، وما يحصل فيه من أوجاع العلاقات بين الريف والمدينة، وتقسيمات المجتمع المدنية والعشائرية والدينية، لتضاف لها الحزبية التي بدأت حركاتها في الظهور في تلك الفترة. لذا فالغناء جزء من التركيبة الاجتماعية أو هو جزء من تركيبة الإنسان العراقي، خاصة الجنوبي الذي يعبر عن كل شئ من خلال الغناء الذي يبدأ أساسا بالشعر المعبر عن اشتعال الشجن.

الرواية هي الجزء الثاني من رواية "حب عتيق"، وتستكمل أحداث تلك الرواية التي ناقشت الواقع السياسي في العراق منذ العام 1900 الى العام 1958، وهذه الرواية في الجزء الثاني تناقش الواقع العراقي من العام 1958 الى العام 1963 من خلال تطورات الأحداث الاجتماعية والسياسية في مدينة سوق الشيوخ جنوبي محافظة ذي قار.

والرواية تسلط الضوء على الصراع الذي عاصرته المدينة إبان الأحداث التي شهدها العراق بعد انتهاء الحكم الملكي الى صراع بين الأحزاب وخاصة الحزب الشيوعي وحزب البعث والتأثير الاجتماعي الذي كان بداية لقلق الفرد العراقي وتأثير هذه الأحزاب على عدم الاستقرار واستمراره وانعكاس ذلك على مدينة سوق الشيوخ التي شهدت الكثير من الحركات السياسية على أرضه.

حيث تنتقل الرواية في متابعة الواقع السياسي والصراع الذي بدأ بين حزبي البعث والشيوعي حيث يمثلّهم في الجانب الشيوعي نعمان وسعد ومحمود، وحزب البعث حيث يمثلهم نديم الحداد وجعفر العايد والشيخ نعيم الذي كان متسوّلا بسبب فعل الحب الذي حوله الى تلك الحالة حين طلبت منه بدرية الحكيمة ابنة شيخ عشيرة أن يتسوّل مهرها للقبول به زوجا لكونه شاب نزق ومتهوّر لكنه يتركها ولا يترك التسوّل إلا قبل ليلة من أحداث عام 1963 حيث انتهاء زمن الرواية ويعود الى وضعه الطبيعي ويعود الى مشيخته منتميًا الى حزب البعث ليكون أحد عناصره.

في المقابل يكون زوج بدرية "رسول" وهو شيخ عشيرة ايضا من أعضاء الحزب الشيوعي.

الرواية تستوقف القارئ ليتفكر فيما يطرح الكاتب في نصه، كما أن الصيغة الأدبية التي جاءت بها السيرة التاريخية لإحداث مهمة تستحق أن تقرأ، فالمتعة حاضرة أثناء قراءتها، رغم الوجع والقسوة التي فيها، وهذا يُحسب للكاتب الذي أحسن الصياغة وأتقن الكتابة.

في هذه الرواية سنجد صوت الإنسان المغلوب أمام طغيان الواقع وقسوته ودكتاتوريته الفظيعة والذي يحاول التمرّد على واقع قبيح، عالم مظلم بشع ما فتىء يرميه بعد ذلك بكلّ هذه الخيبات وتذهب الآمال والأحلام العريضة لخذلان الإنسان رغم كلّ شيء.

تدور الأحداث بدءا من ليلة 14 تموز/يوليو حيث يتوزّع أعضاء الحزبين على مفاصل المدينة لحمايتها من المندسين الذي لا يريدون للثورة أن تنجح، وتبيّن الرواية الصراع الذي يدور في دهاليز السلطة حيث يتصوّر كلّ حزب من خلال أفعال أعضائه على أنهم أصحاب الثورة ومع تطوّر الأحداث يكون الشعب في حالة صراع، بل يصل الى الاقتتال حتى داخل البيت الواحد حيث هناك أخ شيوعي وآخر بعثي والأم تبحث عن مخلّص من بين الناس الخيرين.

وهنا اشير الى ان الرواية هي الجزء الثاني من رواية "حب عتيق".

وفيها التغيرات التي حصلت بين شخصيات تلك الرواية وهي تمشي بخطوطٍ متوازيةٍ بين مكونات المدنية حيث يهرب جاجو اليهودي ويبيع أملاكه ويدفن المخطوطات والكتب والأرشيف اليهودي في المعبد اليهودي في المدينة في ليلة تفجّر الثورة، فيما يواصل جورج المسيحي البقاء في المدينة التي لا يريد مفارقتها وكذلك محمود الصابئي الشيوعي الصغير الذي أسلم لأنه يحب فتاة مسلمة.

اننا امام كاتب يمتلك موهبة الكتابة ويجيد الفنّ الرّوائيّ، بلغة قوية وعبارات محاكة بصور بلاغية ومعانٍ قيمة، ولها قدرات لافتة في خلق الأحداث التي تخدم النّصّ الرّوائيّ، كشفت بواطن الحالة الاجتماعية والسياسية للمجتمع العراقي بصورته الصغيرة "سوق الشيوخ".

سردها لنا بلغة تفيض مرارة، وألما بينما راح ينعى الكاتب الزمن الماضوي الذي يعاني من الأزمات الطاحنة، والفرقة، وسط هذه العتمة تنهي فصول الرواية بمشهد درامي مفعم بالامل،على امل ان يكون ضوء في نهاية النفق لكي تستمر الحياة، فتخضر بذور الأمل في غد مشرق، وسيطلع حتما، ليعيد حاضر الحياة الى هذا الانسان بالرغم من ثقل ، واخيرا أن المتعة الكامنة في الرواية ناتجة عن وجود الحوار باللهجة المحكية ،

وهنا يرسم النص السردي لوحة تراجيدية لواقع يختلط فيه الجوع، بالمواجع، والضياع المطلق،ثم تنتهي بالآمال.