"قميص يغرق البحر" أقرب إلى المناغاة أبعد عن المباشرة

رؤية قريبة من التدوين بعيدة عن الإنطباع عن ديوان الشاعرة البحرينية فاطمة محسن "قميص يغرق البحر".
الديوان يعجّ بالصور الشعرية السلسة والباذخة الخالية من التشفير
فاطمة محسن بتقديم تمردها اللغوي والشعري، عندما تشتغل على الإنزياح

يذهب كثير من النقاد إلى أن الشعر يعتمد على مفصلين مهمين هما (الموهبة) و(المخيال) المنبثق من روح شاعرة، ويركزون على كون الشاعر هو إنسان يحمل مزايا مختلفة عن السارد الذي يحتاج إلى مخيال آخر لا ينتج قصائد.
بينما يتّفق البعض القليل مع رؤى الشاعر والناقد الأرجنتيني بورخيس الذي يرى أن الشعر ليس سوى "صنعة" يجيدها من يمتلك روح الإستعارة المتجددة، وهو رأي يعارضه الكثيرون الذين ينظـّرون في الشعر على أنه يستطيع الإشارة إلى كون اللغة الحقيقية هي تلك التي تولد على شفاه الشعراء الموهوبين.
هذه المقدمة أسوقها وأنا أحاول تدوين رؤية قريبة من التدوين بعيدة عن الإنطباع عن ديوان شعري صدر مؤخراً للشاعرة البحرينية فاطمة محسن والذي جاء تحت عنوان "قميص يغرق البحر" وهو ديوان يعجّ بالصور الشعرية السلسة والباذخة الخالية من التشفير، حيث رصفت لنا الشاعرة قصائد ديوانها، مشبّعة بإنثيلات شعرية هي أقرب للمناغاة غير المباشرة، كونها – فاطمة - تمتلك أدواتها القادرة على رسم اللوحة الشعرية المبتغاة، والتي تخلق الرؤية الجديدة في صناعة النص، الذي لا يرتكن للقصيدة الكلاسيكية، بل جاءت متسارعة ومتأنية في وقت واحد، بعد أن وظفت التمرد اللغوي الذي يسرّع في رسم الصورة الشعرية المختلفة، وكذلك الإقتراب من منطقة الانزياحات اللغوية التي تمنح المتلقي نشوة بطيئة بسبب توافر الدهشة الأدبية داخل متن الديوان المليء بالحيوية والتوهج.

ذات الشاعرة مستغرقة في محايثة التكوين السومري عبر تنقل يضمن لها استمرار البحث عن الفردوس العشقي المؤجل، أو المبعد قسرياً، والذي تريد أن تستعيده

منذ العنوان "قميص يغرق البحر" ومن بعده الإهداء، تبدأ الشاعرة فاطمة محسن بتقديم تمردها اللغوي والشعري، عندما تشتغل على الإنزياح، حيث قلبت الصورة التي في المتداول، القائل بأن البحر يبتلع القمصان ومرتديها، لكنها – الشاعرة - صوّرت لنا القميص الذي تعنيه وقد أغرق البحر في أعماقه، وقد أكدت ذلك في القصيدة المليئة بالإنزياحات، والتي جاءت بصيغة إهداء حيث تقول:
"والقميص حين يغرق البحر 
يعزف قيثارة خلخال مرتعش
راقص أغنية متمردة
في غرق دافىء"  (ص 5)
في قصيدتها الأولى "لو أفطمك ونستريح" تتوشح الشاعرة بالقميص الذي تريده، وكما واضح في متن القصيدة، أن يتغلب على البحر في الدلالة الأدبية الشعرية، لذلك حرصت - وفي أكثر من مقطع - على تأطيره بصيغة المتفوق الدلالي على الدال الآخر، الذي يجيء في أغلب النصوص على أنه دال ومدلول، وهو ما نلحظه من خلال المقاطع التي استعانت بقمصان أخرى منتصرة، وظفتها بتناص لذيذ مع قميص يوسف المقدود، وكذلك مع الأساطير السومرية الممتلئة بقصص القمصان المشبّعة بالشهوة والتعرّق، وللدلالة على كونها تنتصر للقميص على البحر قولها:
"امرأة تسرق البحر
تخبيء زرقته في كمّ قميصها" (ص 9).
وقولها:
"القميص بحّار
يصطاد رغباتك" (ص 12)
هل تقصّدت الشاعرة التقرّب من الفلسفة، عبر التلاعب بالدال والمدلول في هذا النص تحديداً؟ الجواب نعم تقرّبت، ولا .. لم تتقصّد، فالشاعرة ومن خلال نصوص الديوان أو المجموعة الشعرية أسست لنفسها جمهورية فاضلة (عشقياً) وأصحاب الجمهوريات العشقية الفاضلة، كما هو شائع، لديهم خصومة كبيرة مع الفلسفة، في تضاد مع الجمهوريين الأفلاطونيين الذين يطردون الشعر من جمهورياتهم، وكلنا يعرف خصومة أفلاطون مع الشعراء، وطردهم من جمهوريته باعتبارهم مُقلدين وغير مبدعين، وقد أثار هذا الموقف الجدل حول موقف الفلاسفة من الشعر وأسباب الخلاف بين الإبداع الشعري والنشاط الفلسفي.
وعن ذلك يقول شيلي في أطروحته المسماة "دفاعاً عن الشعر": "ليس التقسيم الشائع بين الشعر والنثر مقبولاً من وجهة نظر فلسفة دقيقة، وليس ضرورياً أبداً ان يُخضع".
المعنى الذي أريد إيصاله هو أن فلسفة فاطمة محسن في قصيدة  "لو أفطمك ونستريح" هي مزيج لا إرادي، تحاور مع ذاتها - فكان الناتج نصاً مغايراً في البناء الشعري - حيث تقفز الصور متجاورة ما بين الفلسفي والشعري، دون قصد أو تجريب، ونلحظ ذلك في قولها:
"من أين جئت يا دموزي
عالمي ينتحب
المآتم تطوفه
عالمي ينتحب المآتم
وأنت تطلب قيثارة حلمك
تعزف وألطم" (ص 10)
في قصيدتها "هروب مبكر عن شفة الورد" راهنت الشاعرة من جديد على القميص المنتصر عبر إشارات تحيلنا إلى شعرية الذات المذابة بوجع تستلذه، حيث تجد روحها المتاخمة للتأمل في كينونتها المحاصرة بين العشق والغياب على غرار الشعراء المحدثين، وقد عبرت عنها الشاعرة بلغة غير صاخبة، مكنتها في ذلك سعة أفقها التصويري، حيث جاءت أبنية النص وموسيقاه وكأنها قصيدة تمور بداخلها الخصومات والقلق المشبّع بفراق قسري ما بين الذات والذات الأخرى المتمثلة بصاحب القميص، وقد أسعف النص من موته نتيجة شجنه السومري العتيق، الموسيقى الشعرية وأبنية الجمل التي برعت الشاعرة في التلاعب بها - تقديماً وتأخيراً – في محاولة ناجحة لمنح النص تنويعاً جديداً، كما في قولها: 

Poetry
امرأة تسرق البحر

"أنا الآن صامتة تماماً
كي لا أفضحني أكثر
بينما يخرج صوتي حاملاً قميصك
ويقهقه" (ص 23)
في قصيدتها "ارتباك" تسعى الشاعرة إلى تصوير يتماشى مع ما سبقه أو لحقه من نصوص الديوان، لكنه يسحبنا إلى رؤية أخرى للتدوين الشعري، حيث نلمح التصاعد في البوح والتسريب الخفي للمدّ العشقي المغلّف بترقب وغياب، فالنص عند فاطمة محسن يتصاعد شعرياً، ضمن بناء متوازن من حيث الجملة والصورة الشعرية التي تمزج بين الرؤية والتأويل والإيحاء، وهي تشع بمفرداتها التي تجرّ النص ببنائه صوب العمق الروحي، الذي يحمل المعنى والدلالة الموحية لتحقيق اللذة الشعرية الجمالية، والتي هي مقصد الأدب وغايته كما يقول أرسطو.
ولعل ما يميّز هذا النص هو البناء المقطعي الذي ارتبط بمزاج الشاعرة في التعبير القلق واللجوج، إذ يكون المزاج هنا هو مناخها الشخصي الذي تختزنه، وهو بلاغتها الاستعادية المتكررة، مثلما هو نافذتها للتسلل إلى العالم عبر اللغة، تلك التي تحتفظ فيها بشهوة أناها الساردة، عبر استحضار القرين، ذلك الذي كشف عن محتوى الكينونة الداخلي، وعن مجرى الصور وهي تتدفق بالقصيدة لتفضح انفصالها الرمزي، والتحامها بالقرين الذي هو قناعها المستتر، ومرآة لذتها التي تحضر وتحفز وتمزج بين حال القرين وحال الشاعرة، كما في قولها:
"المسافة تحتطبني
ونبيذ عينيك يقترحني غيمة
فأشهر جنونك
واعتصرني مرتين" (ص 38)
تمثل القصائد العاطفية السمة الوحيدة في الديوان، لكنها عاطفة متزنة، توزعتها الأشواق والأحزان، فتارة تبثّ شهوة ساخنة غير مبتذلة، وتارة تجدها وقد ارتفع صوت مناجاتها وشجنها وهي تستدعي القرين الغائب، وهذا ما يمكن ملاحظته في قصيدة "اشتهاءات" التي أفصحت عن رغبة عند الشاعرة في التعالي عن السائد والمألوف في سرد العاطفة شعرياً وهذا التفرد المتعالي عن الأنظمة الشعرية السائدة هو ما يحتاجه كل مبدع، إذ يحقق عبر التصوير الشعري المكثّف، عالماً خاصاً وقد حرصت الشاعرة على أن تقيم مسافة موضوعية بينها كشاعرة وامرأة، وبين المرأة العادية.
قد يرى مستبصر آخر في هذا النص أن الشاعرة تغالي في تماديها الملتهب على ضفاف الأماني، وفي سرد مراميها لخرق العرف والسائد، وذلك عبر رسم مشهد متخيل يتجاوز ضراوة الواقع القائم على الردع والمنع ووأد المحبات، مشهد يخرج فيه من جسده المتشوّق للذّة الاكتواء بنار اللقاء الساحر، نار الوجد الصادق، بعيدا عن عالم الحواجز والعلاقات المؤسّسة على ما هو غير إنساني نبيل، وقد حققت الشاعرة في اشتهاءاتها الشعرية أكثر من مراد، فقدمت لنا صوراً هائلة بدلالة قولها:
"أشتهي النار فيك
لتطفىء داخل قلبي اللغات
أشتهي نهر دجلة في داخلي يلتقي بالفرات" (ص 43)
قصائد المجموعة بصيغتها التراتبية، من حيث التصوير والبلاغة والتخييل وارفة بالانزياحيات، وبدت كثير من القصائد ساهمة ومتشبعة بالوجد، وهي الركيزة التي جعلت بيدر الشعرية يعلو في هذا الحقل الشعري الكبير، فضلاً عن العفوية الصادقة الإحساس المزروعة في بنية الإنوجاد الروحي في سومر – دلمون، التي جعلت ذات الشاعرة مستغرقة في محايثة التكوين السومري عبر تنقل يضمن لها استمرار البحث عن الفردوس العشقي المؤجل، أو المبعد قسرياً، والذي تريد أن تستعيده.
الديوان كاملاً يعجّ بوافر من الصور الشعرية الرائعة، لكنها بالمجمل تتمحور حول الذات، وصولاً إلى إدراك فن وليس صنعة الشعر من خلال توظيف الغوايات، كغواية الزمن وغواية الأنثى وغواية الأساطير وكذلك متلازمة الغواية والجنون التي تأتي مثل قناع تعبيري، خارج عن قوانين لغة العقل، وهنا يصبح الجنون بمعنى الثورة.