'كحل العين' طقس يتماهى فيه الأسطوري مع الديني والشعبي

كثير من عاداتنا نفعلها بالحنين والمحبة دون أن نشغل انفسنا بأسبابها أو أصلها التاريخي، منها طقس تكحيل العيون في يوم 'سبت النور' وهي عادة ترجع لما كان يقوم به المسيحيون في القدس من تكحيل العيون لحمايتها من فج نور قبر المسيح في هذا اليوم من كل عام.

لكل مجتمع خصوصيتة في احتفالاته وعاداته، لكن خصوصية  المجتمع المصري تختلف عن بقية المجتمعات لأنها ذات طابع تشاركي، تعمد إلى ذوبان  ومحبة خالصة بين أفراده ساعدت على صموده على مر العصور؛ من خلال هوية كامنة تميزه عن غيره من المجتمعات، وجذر ثقافي متأصل داخلنا نتوارثه جيل عن جيل؛ ليس عن تشدد وإنما عن وعي ومحبة وتناغم بين جميع اطيافه، وكل طقس وعادة جميلة مرجعها إلى الأم التي كانت حريصة على بقاء تلك الطقوس، ففي صباح السبت السابق لعيد القيامة المجيد  كنت استيقظ على روائح البخور، وصوت اخوتي وهن يتشاركن تنظيف المنزل، بعيونهن الكحيلة،المتسعة التي زادها كحل سبت النور اتساعا وجمالا، فما أن استيقظ حتى ياتي دوري فى وضع الكحل الحامي، بريشة دجاجة تغمسها أمي في قلب بصلة صغيرة، وأحيانا يكون افطاري على بواقي ماصنعته أمي واخوتي في اليوم السابق (الجمعة الطويلة ) من فطائر مشبعة بالسمن البلدي.

كثير من عاداتنا نفعلها بالحنين والمحبة دون أن نشغل انفسنا بأسبابها أو أصلها التاريخي، من هذه العادات طقس تكحيل العيون في يوم "سبت النور"الذي يرجعه المستشرق البريطاني  إدوارد وليم لين في كتابة "عادات المصريين  المحدثين وتقاليدهم " إلى ماكان يقوم به المسيحيون في القدس من تكحيل العيون لحمايتها من فج نور قبر المسيح في هذا اليوم من كل عام.

كانت الأمهات في صبيحة هذا اليوم تكحل عيون الأطفال، وتتبارى الصبايا في رسم العين وسحبه بخط طويل لأعلى كما بالرسمة الفرعونية المعروفة، التي توارثناها جيل عن جيل فقد احتفظت الآثار الفرعونية بكم هائل من التصميمات الفنية للمكاحل والمراود. تعكس أهمية الكحل في حياة المرأة المصرية. كما تعكس المهارات الفنية في صنعها وكان للكحل بجانب الزينة بعدا طبيا آخر فكان تكحيل العين بالكحل الحامي لحمايتهامن أمراض  الربيع، ومنحها قوة الإبصار. ولازالت هذه العادة مستمرة حتى يومنا هذا خاصة في الريف، حيث تكحل  النساء عيون أحفادهن وأولادهن بالكحل الحراق، وعرف بذلك الاسم لأنهن كن يسستخدمن ريشة  دجاج مغموسة في بصلة لتكحيل عيون الأطفال حديثي الولادة وصغار السن بغض النظر عن جنس الطفل، لتقوية العين وحمايتهامن الأمراض والعين االشريرة.

وقد عثر على الكحل والزيوت العطرية والمساحيق فى المقابرالفرعونية منذ فجر التاريخ وكان  الكُحل يستخرج من الملخيت من خاماتنحاس أخضر اللون ينتشر بسيناء والصحراء الشرقية، كما استخرج من معدن الجالينا وهو من خامات رصاص أشهب اللون يستخرج من منطقة بالقرب من أسوان،أو على ساحل البحر الأحمر، وصنعته النساء أيضا من " السخام" ( سواد الحلة) بمزجه مع معدن  الجالينا،وظهر أيضا نوع من الكحل الأخضر نتيجة خلط الجالينا بالمرمر الذي اعتقدت النساء قديما أنه جاء من الإلهة حتحور إلهة الحب

وفي ريف وصعيد مصر صنعته النساء من نوى البلح، بعد حرقه وإضافة زيت الزيتون له أو لبان الدكر وهو مايسمى بالكحل البلدي.

وذكر بيير مونتيه الأثري الفرنسي في كتابه" الحياة اليومية في مصر في عهد الرعامسة" أن المصريين اهتموا بتجميل عيونهم" وكانت  العيون الكحيلة المستطيلة تروق للمصريين، كما كانت تلك المساحيق وسيلتهم لحماية العيون شديدة الحساسية من أنواع الرمد التي يسببها انعكاس الضوء والرياح والغبار والحشرات ."

واشتهرت شخصيات مثل كليوباترا ونفرتيتي بالكحل الأسود للعين، واللون الأزرق على الجفون، كما ظهر جمال المرأة المصرية فى تمثال رع حوتب وزوجته نفرت بالمتحف المصرى بالتحرير من عصر الأسرة الرابعة، وعرف عن الملكة كليوباترا كثرة وغزارة استخدامها للكحل في عينيها.

وأصبح الكحل رمزا لجازبية المرأة وسر من أسرار أنوتها ؛ فانعكس أثره على الأمثال الشعبية بدلالات متعددة منها "ماتاخدش السهتانة ولا أم كحلة ولبانة، تاكل وتعمل عيانة"، "جه يكحلها عماها"، "يسرق الكحل من العين"، "اللي معاه كحل يتكحل واللي ممعاهوش يترحل"، جبال الكحل تفنيها المراود.

كما كان أيضا مادة خصبة  لكثير من الأغاني منها مطلع أغنية كارم محمود "يا كحل العيون يا سر الهوى.. خليت الجفون للعاشق دوا.. حلفتك يا غالي تكحل عينيها.. وقول للمراود تحاسب عليها".

وأغنية محمد الكحلاوي "داري الجمال في العين.. ياللي عيونك سود.. يا اسمر كحيل العين"، وعبدالعزيز محمود "يامزوق ياورد في عود والعود استوى.. والكحل في عنيك السود جلاب الهوى".

ومن الأغاني الصعيدية الشعبية  "يدوب دوب الكحل في عينه يدوب دوب، ليه الكحل في عينه يدوب دوب".

ولازالت النساء تحرص على تلك العادة، إلى يومنا هذا. نمارسها في يوم "سبت النور " من كل عام دون الانشغال بأصلها الديني أو الأسطوري إنما نفعلها بحنين جارف إلى طفولة كان الصخب الوحيد فيها هو فرارنا من أمام الأمهات وهن يجرين خلفنا بمراود المكاحل إلى أن ننتهي بالاستكانة في أحجارهن حيث الطمأنينة، كل عام ومصرنا الحبيبة بخير.