كم عشر سنوات في العمر ايها الساسة

أضاعت حركة النهضة وأحزاب التنفع السياسي التونسية عقدا مهما من عمر الشعب التونسي.
عشر سنوات شهدت تألق الإسلام السياسي وانهياره في تونس
أحزاب ما بعد الثورة هي عبارة عن جمعيات استثمار في فراغ سياسي
مشهد الملاكمات هو المشهد الأخير الذي يسدل الستار على الفوضى التي خلقتها سنوات حركة النهضة

ألم تكن العشر سنوات الماضية مرحلة استثنائية في حياة تونس؟ يمكن نسيانها على المستوى السياسي من خلال عبورها من غير تعليق. تجربة فاشلة شهدت تألق الإسلام السياسي وانهياره. تألق سريع وانهيار سريع هو الآخر. ما يُقال بطريقة سلبية عن الأشهر التي تلت قرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو/تموز الماضي ينطبق تماما على المرحلة التي حكمت فيها حركة النهضة الإسلامية تونس مباشرة أو من وراء حجاب شفاف.

عشر سنوات استطاعت فيها المانيا الغربية أن تنهض من الرماد لتكون قوة عظمى. كان ذلك الزمن العزيز قد كشف عن عبقرية شعب في وطنيته والهامه وقوة موهبته وحريته وكرامته وثقته بنفسه ولكنه أيضا كان الزمن الذي شهد للسياسيين بنزاهتهم ونظافتهم وعمق حبهم لوطنهم ورغبتهم الصادقة في الارتقاء بشعبهم وكرم عطائهم. خرجت المانيا المدمرة من رمادها لتثير خيال العالم في العشر سنوات التي تلت الحرب الثانية التي كانت برلين قلبها.

عشر سنوات ليست بالزمن القليل في عمر الوعي الإنساني. كم عشر سنوات يعيش المرء في حياته؟ لقد أهدر سياسيو تونس تلك السنوات العشر من غير أن يظهر على أحد منهم أي شعور بالذنب. كما لو أنهم لم يحرقوا عمر شعب. كما لو أنهم لم يعطلوا خيال ذلك الشعب. كما لو أنهم لم يدفنوا الكثير من المواهب ويعطلوا العقول ويوزعوا غذاء وهميا على جياع وهبوهم ثقتهم فذهبوا بهم إلى الجحيم.

لم أسمع عن سياسي تونسي كان له دور في تلك المرحلة السوداء قام بالتعبير عن ندمه معترفا بأنه أخطأ أو ارتكب نوعا من الخطأ ولم تتح له فرصة تصحيحه. تبدو أجهزة السلطة عاجزة عن ملاحقة المقصرين والمبذرين والمسرفين ولا أقول اللصوص فهم أقوى من أحزابهم. حتى لو ذهبوا إلى السجن بتهم مؤكدة فإن أحزابهم لن تتخلى عنهم. مصير واحد يستند على الإيمان بالقدرة على الافلات من العقاب. لذلك يراهن سياسيو تونس على فشل الرئيس سعيد في مرحلته انطلاقا من كونه عدوا للديمقراطية. وهم يقصدون الفوضى التي عاشتها الدولة التونسية عبر العشر سنوات الماضية والتي تكللت بالملاكمات التي شهدها البرلمان التونسي تعبيرا عن الاختلاف في الآراء.

كان ذلك مشهدا مرئيا من الفوضى. هو مشهد تافه قياسا بما لم نره من مشاهد الفوضى التي عاشها التونسيون عبر السنوات العشر تلك. ذكرى الغزوات وأهمها غزوة القيروان لا يمكن أن تٌنسى. بالسيوف قرر الارهابيون أن يستعرضوا انتصارهم على القانون. كانت تلك هي البداية التي جرى بعدها اغتيال ناشطين سياسيين أعلنوا جهارا أنهم يقفون ضد المشروع الإسلامي في تونس. لم يكن القتلة مجهولي الهوية، غير أن الحكومة لم تكن معنية بملاحقتهم ذلك لأنهم يعبرون عن هويتها وهم رُسلها إلى المجتمع بشكل عام وإلى النخب السياسية بشكل خاص. أما أن يقف اليسار وهو الذي تعرض عدد من قادته إلى الاغتيال مع حركة النهضة ضد اجراءات الرئيس سعيد، فتلك واحدة من صور الفوضى التي صنعها السياسيون من أجل أن يبقى الشعب في تناحره.

بكل أعصابه يختلف التونسي. بالرغم من معرفته العميقة فإنه يذهب مع الخطأ إلى الحافة وقد يهدد بالانتحار من غير أن يبدو جادا في الانتحار. التونسي في حد ذاته مشكلة. وإلا كيف مرت تلك السنوات العشر التي هي أسوأ من سنوات حكم بن علي من غير أن ينقلب الشعب على الطبقة السياسية مرات ومرات؟           

ليست حركة النهضة وحدها ما صنع الخراب الذي يعيش التونسيون بين جنباته مواطنين ناقصين ومؤجلين ومشاريع هجرة. كل الأحزاب التي تأسست بعد أن سقط نظام بن علي مسؤولة. كانت تلك الأحزاب عبارة عن جمعيات استثمار في فراغ سياسي اهتدى السياسيون من خلاله إلى الطريق التي تقودهم إلى السوق. هناك مربط الفرس. مناقصات وعمولات ورشى ومكاسب لا يمكن التعرف عليها قانونيا إضافة إلى الامتيازات التي يتمتع بها السياسي العربي ولا يتمتع بها أي سياسي في العالم، حتى وإن كان واحدا من سياسيي الدول العظمى.  

علينا أن نصدق أن سياسيا في تونس وسواها من الدول المنكوبة هو أكثر ترفا من سياسيي أوروبا. تلك الحقيقة وحدها بالرغم من هامشيتها تكفي لتأكيد نوع العلاقة الاستثنائية التي نشأت بين الحاكم والمحكوم وهي علاقة شاذة تقوم على الغرور والتعالي والتفوق وكلها أمور تقود إلى سوء فهم مصيري. كان لابد أن نصل إلى القطيعة. وكما يبدو فإن مشهد الملاكمات كان هو المشهد الأخير الذي يسدل الستار بعده على الفوضى التي خلقتها سنوات حركة النهضة.