كومونة باريس الصفراء

مرة أخرى ثمة سباق بين أصحاب الافكار الاشتراكية والعدالة الاجتماعية ورجالات الطبقة البرجوازية المتنفذة.

في العام 1871 تم حل الاممية الاولى، بعد اقل من عقد واحد على تأسيسها على يد كارل ماركس، الذي اراد في العام 1864 جمع الاحزاب الاشتراكية والنقابات الاوروبية، وتوحيد نشاطها ضد الانظمة الرأسمالية. كان السبب في حل او فشل الاممية الاولى هو انهيار كومونة باريس، التي جاءت كثمرة للأممية الاولى، وكان سبب انهيار الكومونة هو مساعدة بروسيا الالمانية لحكومة "الدفاع الوطني" التي شكلتها الطبقة المسيطرة الفرنسية في العام 1871، عقب سقوط باريس على يد بروسيا نفسها، وخسارة نابليون الثالث حربه معها، فكان السباق حاميا بين رجال الكومونة من الاشتراكيين، الذين شكلوا حكومة ثورية، وبين رجالات الطبقة البرجوازية المسيطرة، ممن شكلوا حكومة الدفاع الوطني، وتعاونوا مع العدو الالماني نكاية بالاشتراكيين ونجحوا! وبذلك انطوى فصل مهم من تاريخ الحركة العمالية العالمية.

لقد كانت الثورة الفرنسية في العام 1789 في طروحاتها وممارسات رموزها، موضع جدل كبير داخل اوروبا وخارجها، وكانت مأساتها الحقيقية، تتمثل بمحاولتها تحقيق قيم مثالية، كالحرية والاخاء والمساواة، بآليات برجوازية. لذلك اصطدمت بموانع قاسية، والدليل ان اقامة عدالة اجتماعية بعد نحو قرن على الثورة، التي اغرقت فرنسا واوروبا بفوضى دموية عارمة، سواء على يد نابليون الذي اختطف الثورة، او على يد الذين جاؤوا من بعده، فشلت تماما، وكانت الكومونة، دليلا صارخا على هذا الفشل.

بعد اقل من نصف قرن من سقوط الكومونة، تحقق اول حلم في قيام نموذج اشتراكي بحجم دولة كبيرة، وكان ذلك في العام 1919 في الاممية الثالثة، التي جاءت هي الاخرى، كثمرة للاممية الثانية، التي دعا اليها فريدريك انجلز في العام 1889 والتي انتهت بتكريس مبدأ نضال العمال حتى تحقيق اشتراكية الدولة، وطرد الاحزاب الاشتراكية التي استغرقت في اللعبة الانتخابية في اوروبا الرأسمالية، أي التي تدجّنت وخرجت من ساحة الفعل النضالي الحقيقي. تلقف الشاب الثوري فلاديمير لينين، عضو الحزب العمالي الاشتراكي الروسي، ثيمة الاممية الثانية التي لم تصل الى نهاياتها، واعلن في العام 1908 انشقاقه عن الحزب الذي انغمس هو الاخر في اللعبة الانتخابية في روسيا المستلبة في ظل النظام القيصري الفاسد. وفي اكتوبر من العام 1917 وصل البلاشفة (الحزب المنشق) الى السلطة بعد سقوط حكومة الكسندر كيرنسكي البيضاء، او حكومة الحزب العمالي الاشتراكي الام، بعد اشهر على تسلمها السلطة في أبريل من ذلك العام. وبعد ان ترسخت اقدام البلاشفة، اقدم لينين على الدعوة الى اممية ثالثة مطلع العام 1919 لتجتمع احزاب وحركات اشتراكية عديدة من مختلف دول العالم في روسيا الثورة، وتعلن عن قيام الكومنترون (الشيوعية الدولية) ونجاح الاممية هذه المرة بإقامة حزب شيوعي كبير، اقام الاشتراكية على انقاض الامبراطورية القيصرية، واعلن عن قيام جمهوريات الاتحاد السوفيتي الاشتراكية، واحزاب شيوعية اخرى، توزعت الارض، ليبدا فصل جديد من تاريخ العالم، انتهى في العام 1991 بطريقة دراماتيكة، ليفسح الطريق مرة اخرى امام الرأسمالية المعولمة التي حاولت ان تقدم نفسها للعالم هذه المرة، على انها ليست منظومة اقتصادية فقط، وانما قيميّة ايضا، مستلهمة، بشكل او باخر، مبادئ الثورة الفرنسية، التي اختلف المعسكران، الشيوعي والراسمالي، من قبل، في كيفية تطبيقها او النظر اليها.

لقد كانت خيبة البشرية بالعولمة، توازي حيرتها في ايجاد النموذج البديل، بعد ان وصمت النظم الاشتراكية بالدكتاتورية والانغلاق، وخنق الانسان وغيرها من اسباب التكريه بهذا النموذج الذي ربما اساءت بعض الانظمة الشيوعية اليه. لكن العالم بعد العام 1991 اخذ يختنق تدريجيا بالعبث العولمي المتمثل بصناعة الازمات والحروب وعسكرة العالم، وايقاظ النزعات العرقية والاصوليات الدينية وغيرها، وان الحل الحقيقي يكمن بنموذج يزاوج بين روح الاشتراكية، وليس بالضرورة تطبيقاتها الكلاسيكية، وبين الرأسماليات الوطنية. او هكذا يرى كثيرون اليوم.

هل تمكن إيمانويل ماكرون، الرئيس الشاب، من استلهام هذه الفكرة وتطبيقها في فرنسا، البلد الذي يبدا به التغيير الثوري باستمرار؟ يقال ان الرجل احترم مشاعر الاغنياء ولم يزعجهم بضرائب مناسبة، لكنه اثقل على الفقراء فجعلهم يخرجون الى الشوارع بستراتهم الصفر الفاقعة، وهذه المرة امام آلاف الفضائيات، في مشهد يذكر بكومونة باريسية جديدة. ترى هل تترك الرأسمالية ماكرون، يواجه وحده هذا المد المزعج، مع ان هناك من يشير الى ان اصابع اميركية وربما اوربية وقفت وراء ما يحصل في فرنسا، لابتزاز ماكرون، لأسباب مختلفة، بعد ان دعى الى جيش اوروبي يدافع عن مصالح القارة العجوز في العالم لينافس العملاقين، الولايات المتحدة وروسيا؟ لا احد يعرف كيف ستسير الامور مستقبلا، لكن المؤكد ان الايغال في الابتعاد عن العدالة الاجتماعية يوقظ عند الشعوب، الحنين الى الثورات وما يرافقها من خيال رومانسي، غالبا ما يأخذها بعيدا ويلقي بها في ايدي الغرباء والمتربصين، كالثورة الفرنسية مثلا!

ان ما يحصل في باريس ان لم ينهه ماكرون نفسه، ربما ينهيه او يقمعه من وقفوا وراءه، ان صحت هذه القراءة، لان تمدده ليس بصالح الكثير من الاقوياء في اوروبا وغيرها بالتأكيد.