لا يوجد نقص في المعلومات الصحيحة، لماذا يسود التضليل


بمجرد أن تتحول أدمغتنا إلى وضع الصراع القائم على الهوية نصبح في توق دائم للحصول على معلومات من شأنها أن تفاقم إحساس عدم الثقة بالآخر ونكون عندها أقل اهتماما بالحقيقة.
يصبح الجمهور أكثر عرضة للمعلومات المضللة عندما تحدث جملة من المسببات أهمها اعتقاد الناس أن هويتهم الاجتماعية هي مصدر القوة والتفوق
مستخدمو تويتر يميلون إلى إعادة التغريد لإظهار الموافقة والجدل وجذب الانتباه والترفيه ولم تكن مصداقية المنشور أو دقة الادعاء دافعين محددين لإعادة التغريد

تطغى عمليات التضليل وتستحوذ على الاهتمام بوصفها حقائق يجب الدفاع عنها، مع أنه لا يوجد نقص في المعلومات الصحيحة.

ليس لأن هذه العمليات تندرج ضمن مفهوم الحقيقة المختلف على تعريفه، بل لأننا نريد ذلك، ونصدّق ما نرغب به وندافع عنه بغض النظر عن كونه مزيفا أم حقيقة.

كذلك تعزو النظريات الإعلامية والنفسية ذلك إلى دوافع اجتماعية ونفسية تجعل الناس عرضة لمشاركة المعلومات المضللة والاعتقاد بها في المقام الأول. وهذه الدوافع آخذة في الارتفاع في عصر تديره كمية هائلة من المعلومات تفوق حاجة البشر إليها.

يعيد بريندان نيهان أستاذ العلوم السياسية بجامعة هانوفر الأميركية السؤال بطريقة مختلفة في دراسة مطولة نشرتها مجلة الأكاديمية الأميركية للعلوم “PNAS” بقوله: لماذا تبدو المفاهيم الخاطئة حول القضايا الخلافية في السياسة والعلوم مستمرة ويصعب تصحيحها؟

ويجزم نيهان الذي عُرف بدراساته المعمقة في الإجابة على السؤال بأنه ليس بسبب نقص المعلومات الصحيحة الموجودة في كل مكان. والصحافة جزء فعال في نشر ذلك. بل لأن الانتماء أقوى من الحقائق.

يمكن لأيّ منا تطبيق إجابة الباحث الأميركي فعليا عبر مطالعة صحيفة يومية وقياس ردود فعلنا على ما ينشر فيها من قصص إخبارية.

إننا نصدق قناعاتنا عندما نقارنها بما نشر في الصحيفة، بغض النظر عن قوة الإقناع الموجودة في متن القصص المنشورة. فاستقبال المعلومات لا يغير المعتقدات “الصلبة” في دواخل الإنسان عندما يتعلق الأمر بالولاء للمعتقد والهوية والدين والطائفة..

ويعزو الباحث الأميركي ذلك إلى القيود المعرفية والذاكرة والدوافع التوجيهية للدفاع عن الهوية والمعتقدات عندما تواجه بحقائق تختلف معها أو تصحّحها أو تفنّدها.

بعبارة مبسطة، يصبح الجمهور أكثر عرضة للمعلومات المضللة عندما تحدث جملة من المسببات أهمها اعتقاد الناس أن هويتهم الاجتماعية هي مصدر القوة والتفوق، وأنه يمكن إلقاء اللوم على المجموعات الأخرى في التسبب بمشاكلهم. فمجرد مطالعة قصة إخبارية صحيحة تكشف عن الجرائم المريعة التي ارتكبتها مجموعة سياسية أو حزبية أو طائفية بحق الآخرين، يوجد في المقابل نازع قوي في دواخل نسبة مرتفعة من أبناء هذه المجموعة لعدم تصديق المعلومات على صحتها. مع أنه يفترض أن نفكر بأنفسنا ككائنات عقلانية تضع البحث عن الحقيقة فوق أيّ اعتبار آخر.

ولأننا كائنات اجتماعية تعيش بغريزة البقاء على قيد الحياة، نلوذ في أوقات الصراع أو التغيرات الاجتماعية الكبرى بأمن المجموعات، ونتحمس لأفعالها وندافع عن خطابها سواء أكان ذلك صحيحا أم لا.

كذلك تشكّل المعلومات الصحيحة شعورا بعدم الاستقرار والخوف على المصائر، فتجد لها ردة فعل بمعلومات مضللة تصبح سائدة بين طبقات في المجتمع وحكومات وقوى وأحزاب سياسية ودينية. ونتيجة لذلك، غالبا ما تكون المعلومات المضللة سائدة بين المجتمعات التي تشعر بزعزعة الاستقرار بسبب التغيير غير المرغوب فيه أو في حالة بعض الأقليات التي تشعر بالعجز في مواجهة القوى المهيمنة.

إن تأطير كل المعلومات والأخبار على أنها صراع ضد الأعداء المخادعين يمكن أن يكون مطمئنا للغاية. ولهذا السبب ربما يكون أكبر مذنب في عصرنا من المعلومات المضللة ومصدر التضليل هو صعود الاستقطاب الاجتماعي، وفق الباحث بريندان نيهان.

كذلك تكون الخلافات السياسية والطائفية والاجتماعية سببا أساسيا لشيوع المعلومات المضللة التي تغذي عدم الثقة، مما يجعل الناس أكثر عرضة للشائعات والأخبار الزائفة. كما أن ذلك يجعل الناس يتمسكون بشدة بهوياتهم بوصفها المصدر الأوثق للحقيقة!

وبمجرد أن تتحول أدمغتنا إلى وضع “الصراع القائم على الهوية” نصبح في توق دائم للحصول على معلومات من شأنها أن تفاقم إحساس عدم الثقة بالآخر ونكون عندها أقل اهتماما بالحقيقة أو الدقة.

يقول نيهان “قد يكون من الصعب من الناحية المنهجية تحديد العلاقة الدقيقة بين الاستقطاب العام في المجتمع والمعلومات المضللة بشكل عام، ولكن هناك أدلة وفيرة على أن الفرد الذي لديه آراء أكثر استقطابا يصبح أكثر عرضة لتصديق الأكاذيب”.

على مستوى آخر علينا ألا نتناسى ظهور شخصيات دينية وسياسية تعمل من أجل شيوع المعلومات المضللة عبر تشجع أتباعها على الانغماس في رغبتهم وإن تطلب الأمر تزييف المعلومات. وغالبا ما يكون جوّ الصراع السياسي الشامل مفيدا لهذه الشخصيات من خلال حشد الناس خلفهم.

ثم هناك التحول إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تعد منفذا قويا لمروجي المعلومات المضللة وناقلا ضخما للمعلومات المضللة نفسها ومضاعفا لعوامل الخطر الأخرى. وهو ما لخصه عالم النفس الأميركي ويليام جيه برادي بالقول “لقد تغيرت وسائل الإعلام وتغيرت البيئة، وكان لذلك تأثير كبير محتمل على سلوكنا الطبيعي”.

صارت هذه المنصّات بمثابة المكافأة الاجتماعية التي ينتظرها المستخدمون عندما تستقطب الأكاذيب الغرائز أكثر من الحقيقة، فتحظى بمزيد من الاهتمام يشجع على نشرها ومتابعة ردود الفعل عليها.

وتجمع غالبية الدراسات على أن الأشخاص الذين يحصلون على تعليقات إيجابية لنشرهم عبارات تحريضية أو كاذبة يصبحون أكثر عرضة لفعل ذلك مرة أخرى في المستقبل.

وسبق وأن كتب الباحث جون باتريك أليم في دراسة مشتركة “لقد وجدنا أن مستخدمي تويتر يميلون إلى إعادة التغريد لإظهار الموافقة والجدل وجذب الانتباه والترفيه ولم تكن مصداقية المنشور أو دقة الادعاء دافعين محددين لإعادة التغريد”.

وهكذا وإن كان معظم الناس لا يريدون نشر معلومات مضللة، فإن سياق وسائل التواصل الاجتماعي يركز انتباههم على عوامل أخرى غير الحقيقة والدقة.

وبطبيعة الحال استغل الانتهازيون من السياسيين ورجال الدين ذلك للترويج لخطابهم من أجل مصلحة أنانية مضللة تكون على حساب الحقيقة في عصر ما بعد الحقيقة.

ما يحدث اليوم في انتشار الأخبار المضللة يشبه إلى حد كبير مواجهة بين مئات الآلاف من مشجعي فريقين في كرة القدم، لم يجمعهم الملعب الرياضي، هناك ملعب شاسع يضم المليارات من المستخدمين تديره فيسبوك وتويتر في مجتمع متصل مع بعضه وينتظر الأفراد فيه دعم أقرانهم المتشابهين في التفكير، ليرتفع مستوى الصراخ في وجه الآخر المعادي في الفضاء الرقمي.