لعنة الفساد قد تُفلس العراق
العراق رغم جذوره الضاربة في الحضارات البشرية وماضيه الحافل بالابتكارات في المجالات التعليمية والنظم الادارية والسياسية، الا أنه يعيش أتعس فترة من تأريخيه ويتجه نحو الانحلال والانهيار على الاصعدة كافة وذلك في ظل تمسك الطبقة السياسية الحاكمة وتشبثها بمقاليد الحكم، طبقة فاسدة تكبر وتتوسع يوما بعد آخر إذ تتوزع على جهات وأحزاب هي تفتقد الى الرؤية الحقيقية لادارة الدولة بل إنها موصومة بالتبعية وتعمل وفق أجندات خارجية، تفتعل ازمات وأزمات، أزمة التصحر والجفاف التي تهدد الحياة في مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية ومشكلة شح المياه التي أجبرت الكثير من العائلات الى النزوح الجماعي في الأرياف ومناطق الاهوار، مرورا بأزمات التعليم والتربية والبطالة والبيئة إلى جانب إنعدام السيادة وهيبة الدولة، وصولا الى أزمة الفساد وآخرها سرقة أموال هيئة الضرائب العامة أو ما تسمى بسرقة القرن في حين تكشف الأرقام أضعاف ما تم إعلانه والتي باتت لعنة تطارد مفاصل الإدارة والحكم وتلوث الخارطة العراقية ناشبة مخالبها في عنق دولة لم يعدْ من كيانها إلا أشخاص جوفاء.
دوليا يصنف العراق ضمن الدول الأكثر تفشيا بالفساد في العالم، إذ احتل المرتبة 157 عالميا بين 180 دولة ضمن مؤشرات مدركات الفساد الذي أصدرته منظمة الشفافية الدولية العام الماضي.
يدرُّ الفساد المالي، الذي تديره الأحزاب والميليشيات الطائفية والحزبية، عائدات مالية خيالية تجنيها أطراف متصارعة على السلطة منذ سنوات وسنوات، على حساب شعب منهك مجهول المصير، كما أن الفساد سمة أساسية في الاقتصاد، وهو جزء من المعاملات اليومية حسبما كشفت الممثلة الأممية جينين بلاسخارت أمام مجلس الأمن الدولي التي أعلنت عن فشل الطبقة السياسية الحاكمة في العراق.
وتحذر الخبيرة الإقتصادية الدكتورة سلام سميسم في مقابلة متلفزة من حجم الفساد المستشري في العراق والذي قد يقضي على كل شيء وخاصة الاقتصاد، وأن هناك الكثير من كوارث الفساد، كما تشير سميسم إلى أن قيمة الاموال المسروقة من العراق منذ عام 2003 وإلى الآن وحسب الاحصائيات تبلغ 1400 مليار دولار، أي ترليونا وأربعمائة مليار دولار! وأن هذه الاموال تهرب إلى الخارج أو يتم تبديلها من نقود سائلة إلى اصول وممتلكات مثل المجمعات السكنية والتجارية.
وتؤكد الخبيرة الاقتصادية بأن مخاطر جمة تنذر بإنهيار الاقتصاد في حال إنخفاض أسعار النفط وعدم تفعيل القطاعات الصناعية، مفندة صحة تقرير صندوق النقد الدولي الذي أشار إلى أن إقتصاد العراق هو الأكثر نموا بين البلدان العربية واصفة التقرير بغير الدقيق من الناحية الفعلية لأن زيادة النمو المتحققة في الاقتصاد العراقي هي زيادة رقمية وهي فقاعة لا يقابلها أي زيادة في القطاعات الإنتاجية.
المشكلة الاساسية في إستفحال الفساد بهذه الكميات والأحجام في مؤسسات الدولة تكمن في انعدام جهة رقابية وتشريعية وطنية فعالة على غرار المؤسسات القانونية والتشريعية في الدول المتقدمة والحكومات الديمقراطية في العالم إذ أن البرلمان يعتبر جهة رقابية ومسؤولة عن تشريع قوانين وتنظيم العلاقات وإدارة الدولة ومحاسبة السلطة التنفيذية على تقاعسها لكن البرلمان في العراق أصبح مصدرا لتشريع الفساد والأزمات والمشاريع الفاسدة وهو الآن يشبه بمدجن ينتج الآلاف المؤلفة من النواب المتقاعدين بأكثر من رواتب ضخمة، فهؤلاء النواب يغادرون البرلمان بعد سنوات من الترف والترح والتوافد الى الخارج على أموال الشعب يتكلف بها البرلمان علما أنهم لم يحركوا ساكنا طوال مدة عضويتهم لصالح الشعب ولا المواطن، وبعد احالتهم الى التقاعد يختبؤون وراء تسميات متعددة الاستقلالية والمهنية والخبراء والباحثين والاستاذة على الشاشات لترويج أجندات احزابهم التقليدية المنقسمة على سياسات طائفية وإثنية ومذهبية مدعومة بأجندات خارجية، كل أربع سنوات عمر الدورة النيابية يتقاعد نواب فاسدون ليحل محلهم النواب الوافدون الجدد مكانهم الى حين انتهاء دورتهم ومهمتهم الفاسدة هكذا تدور عجلة السلطة التشريعية التي تفوح منها الرائحة النتنة الفاسدة، جيل فاسد من النواب يتقاعد ليأتي الآخر ويتربع على كرسي الحكم لممارسة الفساد.
أما دور القضاء فينحصر في اصدار بيانات كشف المستور تتبعها ادانة ضد الفاسدين والتكتم على ملفات إختلاس الأموال وتهريبها ناهيك عن تعثره في احالة الفاسدين الى المحاكمات.
ليس هناك نموذج اخر على مستوى العالم مثلما تشهده في العراق حتى في الدول النامية او الدول الحديثة التي تفتقر الى التأريخ والحضارات، في ظل الطبقة الفاسدة وأن الدولة تسير معطوبة تسقط فيها كل المعاني والمفاهيم والغايات السامية والدينية والأفكار والفلسفات اليسارية واليمنية في العراق الذي كان يعد مهدا في العهد القديم للحضارات وتصدير القيم والمفاهيم الاخلاقية والادارية والثقافية والعلمية بات اليوم عظما جافا تنخره جيوش من القمل.
والغريب في الأمر كلما تم طرح المعالجات والحلول للفساد المستشري في مؤسسات الدولة فيزداد الفساد إستفحالا وتفشيا.
ثمة تقارير ومعلومات تسلط الضوء على جملة من العوامل التي بدأت تظهر في العراق وتُمهد لحالة الإفلاس فيه، أبرزها عدم قدرة الدولة على دفع ديونها كليا أو جزئيا، لاسيما وأن الديون بعد عام 2003 كانت 120 مليار دولار، بيد أنه نتيجة للسياسات الخاطئة ورغم الزيادة في إنتاج النفط، فإن الديون الداخلية والخارجية ارتفعت مرة أخرى، إذ توقفت بغداد مؤقتا عن التسديد عام 2014 نتيجة الوضع الأمني المتدهور وسيطرة تنظيم داعش على أجزا ء واسعة في العراق، مع زيادة حجم الدين العام في 2021 إلى 26 مليار دولار، وهي ديون خارجية.
ومن الأسباب التي تؤدي إلى الإفلاس أيضا الاضطرابات السياسية الداخلية الناتجة عن تغيير الحكومات والتقلبات، إلى جانب الإفراط في الإنفاق الحكومي، وتراجع أهم الصناعات في البلاد، ففي كل موازنات العراق تكون النفقات العامة أكثر من النفقات الاستثمارية وتصل النسبة إلى أكثر من 80%.
ومن أسباب الإفلاس أيضا إصدار قوانين جديدة تخيف الأسواق المالية فتنسحب رؤوس الأموال من البلد، وهذا العامل موجود أيضا في العراق، كما تشير المعطيات، بعد قرار الحكومة عام 2020 رفع سعر الدولار مقابل الدينار العراقي والذي خلق فوضى في السوق، إضافة إلى انخفاض تحصيل الضرائب والرسوم نتيجة الإعفاءات والفساد، ويزداد ذلك الانخفاض يوميا بقرارات حكومية بإعفاء دول وشركات وسلع من الضرائب والجمارك.
في ظل الأوضاع المزرية واستمرار مسلسل سرقة الأموال وانتشار السلاح المنفلت وسط الانقسامات السياسية يتجه مصير العراق نحو الإفلاس إفلاس مالي وسياسي وإداري.