لغز العلاقات الدبلوماسية الأميركية الروسية

ليست سابقة عمليات تبادل الطرد الدبلوماسي بين الغرب وروسيا، إذ جرت العديد من الحالات خلال الخمس عشرة سنة الماضية وبخاصة في الولاية الرئاسية لفلاديمير بوتين؛ لكن هذه المرة أخذت إبعادا مختلفة وتشي بألغاز غير واضحة المعالم، لاسيما وأنها ارتبطت بعوامل ووقائع ليس لواشنطن صلة مباشرة فيها، وسلكت مسارا مترددا ومن ثم مفاجئا من قبل الرئيس الأميركي دونالد ترامب.

فحالات الطرد الدبلوماسي عادة ما تأتي بعد توتر شديد، وتكون ردا على مسارات مغلقة لا مخارج دبلوماسية لها، وتعبر عن قلق شديد إزاء استمرار العلاقات الودية بين طرفين، وهي تعبير عن أزمة فعلية يسعى الطرف الفاعل فيها إلى إتخاذ موقفه وهو يعلم ان الرد آتٍ بنفس المستوى إن لم يكن أقوى وأكثر حدة، باعتبار أن طرفا الأزمة يدركان أن تصحيح الوضع القائم لإعادته إلى وضعه الطبيعي يستلزم جهودا مضاعفة ومزيدا من الوقت، وهذا ما حدث وسيحدث بين الطرفين الأميركي والروسي حاليا.

وغريب المفارقات في الخطوة الأميركية، أن قرار الرئيس ترامب أولا أتى على قاعدة أزمة ليس شريكا فيها، فهي أزمة ناشئة بين لندن وموسكو بعد اتهام الأخيرة بتسميم العميل كريسبال في لندن. وبصرف النظر عن المساندة الأميركية للقرار البريطاني بطرد عشرين دبلوماسيا روسيا، فمن غير المألوف في العلاقات الدبلوماسية بين الدول أن تتخذ دولا أخرى كالولايات المتحدة خطوات مماثلة، فكيف إذا كانت الخطوة الأميركية اقسي وأشد سلوكا، إذ عمدت واشنطن إلى طرد ستين دبلوماسيا روسيا دفعة واحدة وهو ثلاثة أضعاف عدد ما طردته لندن في الأزمة نفسها، وهو أمر يخفي سلوكا غير مبرر في الأحوال العادية.

إضافة إلى ذلك، فقد تبع السلوك الدبلوماسي الأميركي 16 دولة أوروبية وأميركية إضافة إلى استراليا، ما يعني أن ثمة رسالة غربية قاسية وواضحة لموسكو، وبالتحديد للرئيس بوتين، الذي اعتبر فوزه في الولاية الرئاسية الأخيرة نصرا خارجيا في سلوكه السياسي مع الغرب، أكثر من كونه أعيد انتخابه لولاية رابعة. ما يعني أيضا ثمة تكتلا غربيا واضح المعالم لمواجهة سياسات الرئيس بوتين الخارجية بعد متغيرات موازين القوى مؤخرا في الأزمة السورية ومتفرعاتها ذات الصلة إقليميا.

وفي المقلب الآخر من السلوك الذي اتبعه الرئيس ترامب، ثمة وقائع لافتة متصلة بالمتغيرات التي أحدثها في إدارته؛ أولا لجهة إقالة وزير خارجيته ريكس تيلرسون وتعيين خلف له يمثل صقور التعامل الفج مع موسكو، إضافة إلى تعيين جون بولتن مستشارا للأمن القومي، والذي يعتبر أيضا رأس حربة في مواجهة موسكو إبان توليه تمثيل بلاده في مجلس الأمن، ما يعني أيضا، ان ثمة إعادة تصعيد للعلاقات الثنائية بين البلدين. إلا إن غريب المفارقات أيضا، السلوك الرئاسي الأميركي أيضا في توقيت التنفيذ، فعملية الطرد أتت مفاجئة ولم تكن متوقعة لا بحجمها ولا في توقيتها، إذ عند نشوب الأزمة بين لندن وموسكو اكتفى البيت الأبيض بتأييد الموقف البريطاني بلهجة دبلوماسية معتاد عليها في مثل تلك الحالات، في وقت كان الرئيس ترامب يتصل بالرئيس الروسي مهنئا بإعادة انتخابه، وربما هنا يكمن اللغز، إذ تجاوز ترامب رأي مستشاريه بعدم الاتصال بالرئيس بوتين، وسرعان ما أعقب هذا السلوك بتعيين جون يولتون الذي يملك الكثير من الأسرار المتصلة بالبيت الأبيض وبالسياسات الخارجية الأميركية وبالتحديد مع روسيا، فما هي القطبة المخفية في ذلك؟

ثمة سباق محموم بين الغرب وروسيا في الكثير من القضايا الدولية، وتنافس أشد في الأزمات الإقليمية ذات الطابع الدولي، حيث يسجل الطرفان مواقف ومواضع شديدة الحساسية وتنذر بتخطي سياقات الحرب الباردة لأكثر من أربعة عقود؛ اليوم ثمة وقائع كثيرة تشي بازدياد منسوب التوتر بين الطرفين، ذلك يتم دون ضوابط محددة اعتاد الطرفان على إتباعها في سياقات إدارة الأزمات الإقليمية والدولية التي برزت مؤخرا. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم ما هي السلوكيات السياسية الدولية التي سيتبعها الرئيس بوتين في ولايته المجددة؟ وماذا سيكون الرد الغربي عليها؟ هل سيكتفي الطرفان بتبادل الطرد الدبلوماسي أم أن ثمة خطوات تصعيدية أخرى ينتظر الطرفان مبرراتها لبدء فصول جديدة من الصدامات غير المباشرة مستقبلا؟ إن قراءة التاريخ السياسي والدبلوماسي للعلاقات الغربية الروسية وبالتحديد الأميركية منها، تشي بسياسة حفة الهاوية، إذ يدرك الطرفان مدى حساسية المواقف الدولية وقدرتهما على الاستثمار في أي أزمة، وبالتالي التنافس سيكون العنوان الأبرز دون الوصول إلى صدام مباشر، وهذا ما اعتاد الطرفان عليه في العلاقات البينية إبان الحقبة السوفياتية والحالية.