لقاء الغضب والعقوبات في لبنان

الأخطر أن الدولة تتباهى بتحدي العالم وأصدقاء لبنان التاريخيين وأشقائه، تفتخر بخياراتها المكلفة ومواقفها الجامحة، وتظن هزائمها انتصارات وعقوباتها أوسمة. بل وتلوم الآخرين.

ما يجري في لبنان منذ ثلاث سنوات، لاسيما في هذه الفترة، لا هو عفوي ولا هو مؤامرة. هو غضب. الغضب ليس عفويا، سببته الأحوال السيئة. والغضب ليس مؤامرة، حركه الوجع. والرابط بين الأحوال السيئة والوجع هو الدولة. والدولة في لبنان باتت عقاب اللبنانيين، فغضبوا. الغضب فك الارتباط بين الدولة والشعب. أصبحنا دولة تصطاد الشعب، وشعبا ينفر من الدولة. هذه حال تفقد الدولة فيها جذورها وأغصانها، وتمسي سلطة في مهب الريح، معدومة الوزن تحلل لنفسها كل الممنوعات. أما الشعب، فيروح يفتش عن سلطة وازنة وحامية وحنون وعن مرجعيات أخرى. فلا ننس لحظة أن نوعية مشاكل لبنان وحلوله أصبحت، بسبب ضعف وحدتنا الوطنية، من نوعية مشاكل المنطقة وحلولها. والفدراليات هي مستقبل المنطقة، وقد بقيت قائمة تحت مسمى "ولايات" حتى بعيد الحرب العالمية الأولى (1914/1918).

ما يجري في لبنان منذ ثلاث سنوات، لاسيما في هذه الفترة، لا هو عفوي ولا هو مؤامرة. هو عقوبات أيضا. منها ما هو خارجي على حزب الله وبيئته فبلغ سائر اللبنانيين، ومنها ما هو ذاتي وضعته الدولة "شخصيا" على شعبها بفعل سلوكها السياسي العام، وانحيازها الإقليمي، وتبنيها مواقف حزب الله، وامتناعها عن إجراء الإصلاحات الاجتماعية والمالية والاقتصادية. والرابط بين العقوبات الخارجية والذاتية هو الشارع. فما يحصل اليوم في الشارع هو، بجزء منه، رد على العقوبات (قرار داخلي)، وبجزئه الآخر عقوبات من نوع آخر على الدولة عموما (قرار خارجي). والجزءان يتفاعلان ويتناسلان ويشكلان كرة ثلج على صدر البعض وكرة نار على صدر البعض الآخر. هكذا، ورطت الدولة جميع اللبنانيين في حرب اقتصادية مفتوحة مع الولايات المتحدة، بينما دول كبيرة وجبارة كالصين وكوريا الشمالية وكندا وأستراليا ودول أوروبا تتحاشى مواجهة أميركا اقتصاديا وماليا.

الأخطر من كل ذلك، أن الدولة تتباهى بتحدي العالم وأصدقاء لبنان التاريخيين وأشقائه، تفتخر بخياراتها المكلفة ومواقفها الجامحة، وتظن هزائمها انتصارات وعقوباتها أوسمة. والأخطر كذلك أن الدولة تلوم الآخرين وتتهمهم وتلاحقهم وتقاضيهم، فيما هي الجناية وهم الجنحة، هي النار وهم الدخان. غريب أن يلوم القبطان البحر على أمواجه العاتية ولا يلوم نفسه على الإبحار في بحر عاصف. "أفهم" نظريا أن تضع دولة أجنبية عقوبات على الشعب اللبناني، فهو ليس شعبها، أما أن تكون مواقف الدولة اللبنانية بمثابة عقوبات على شعبها، فهذا يخرج عن كل منطق... ويخرج الناس إلى الشارع. وما نحن إلا في البداية.

إن استراتيجية تفقير الشعوب وحصر تفكيرها في يومياتها، تؤدي إلى ثورة في المجتمعات المتجانسة، لكنها تؤدي إلى مزيد من الخنوع والتسليم بالأمر الواقع في المجتمعات المنقسمة إثنيا أو مذهبيا، إلى حين يعم الضيق والغضب والفوضى، فتندلع آنئذ الفتن بين مكونات المجتمع عوض الثورة على الدولة. وهذا ما تراهن عليه تحديدا قوى أساسية في لبنان وخارجه بغية الإطباق على السلطة القائمة أو تثبيت سلطات بديلة. إنه الخط الذي يجتاز منطقة المشرق من العراق حتى فلسطين مرورا بالمحافظات اللبنانية والمدن، حاملا نار الفتن بيد وقلم رسم الكيانات بيد أخرى.

هذا الانتحار الاختياري الذي يقدم عليه لبنانيون يشبه رجلا توفرت له جميع فرص الحياة السعيدة، لكنه تجاهلها وانتحر. حول الفرص مربع شقاء وسجن نفسه فيه. اعتبر السعادة وهما نصب له لغشه وتعذيبه، فاستعدى الآخرين جميعا في حين أنهم أساسا مصدر سعادته وكماله. نسج سيناريو معركة وهمية بثت فيه نزعة الغضب فالحقد فالضياع فالسويداء فالقتل. ولما أخفق في قتل الأعداء الوهميين، انتحر.

ليس الانتحار من خصائص الشخصية اللبنانية التاريخية. فهو الوجه العدمي للاستسلام، ونحن أهل الرجاء والحياة والمقاومة. كيف لنا أن ننتحر أمام أعداء وهميين اخترعناهم، فيما واجهنا أعداء حقيقيين وانتصرنا عليهم؟ إن الخروج من منطق الانتحار السياسي يبدأ بعودة القوى السياسية إلى الدولة، وبعودة الدولة إلى شعبها وحيادها، وبعودة الشعب إلى وحدته ولبنانيته. مجرد أن يتم هذا التلاقي يتغير الجو - ولبنان جو - وترفع العقوبات وتفتح الطرقات وتتوقف الإضرابات ويستقر البلد ويتحرك الاقتصاد ويتنفس الناس طبيعيا. لم توضع علينا العقوبات كرها بلبنان، بل لأن الدولة زجت نفسها في نزاع إقليمي ودولي لا علاقة لها ولنا به. وتقع مسؤولية هذا المأزق على جميع القوى المشاركة في إدارة الدولة، فالصامت شريك أخرس والمعارض بحياء شريك مذنب.

كل تأخير في تصويب السياسة الوطنية وفي كسر المنحى الانتحاري كفيل بإنهاء صلاحية الدولة اللبنانية الموحدة، عدا أنه يزيد الغضب والعقوبات والاضطرابات. صمودنا يحسن شروط التغيير الآتي من دون أن يلغيه. سوف نبقى معا حتما، لكن بأشكال دستورية أخرى جنينا بها على أنفسنا. فمن يزرع الفرقة يحصد التباعد، ومن يشهر تعدد الولاءات يقطف تعدد البيئات.

لبنان الذي عرفناه صار في قاعة المغادرة وقد قطع بطاقة ذهاب. حذار أن نختم جواز سفره ونأذن له بالمغادرة. أراه يقف هناك حزينا وعاتبا: ماذا فعلتم بي؟ جمعتكم في أجمل أرض فتفرقتم ومزقتموني. وفرت لكم أحدث دولة فأعطيتموني أفشل سلطة. حصنتكم بأفضل نظام فأعطيتموني أسوأ طبقة سياسية. وهبتكم أسمى صيغة تعايش فأعطيتموني أسوأ شراكة. منحتكم أرفع هوية فألصقتم بي هويات مستعارة. نسجت لكم أهم علاقات مع أهم دول العالم فحولتموها ضدي وصرتم محط عقوبات. أعطيتكم أمتن نقد واقتصاد وسمعة فأسأتم إليها وأفقرتموني. أخرجوا من عبثيتكم. لديكم جميع عناصر الوحدة فلم تنقسمون؟ لديكم جميع مصادر السعادة فلم تغضبون؟ عاقبوا المسؤولين عن بلواكم قبل أن تعاقبوا أكثر، وغيروا ما فيكم من سيئات قبل أن تتغيروا أكثر. إنتقلوا من المغامرة بالمصير إلى تقرير المصير. مصيركم عندي.