"لقاء ريميني" بالإسكندرية: الاختلاف هبة من الله

مكتبة الإسكندرية تشهد افتتاح مؤتمر "هبة الاختلاف: التعددية البنَّاءة للذات والآخر" بمشاركة مؤسسة "لقاء ريميني" للصداقة بين الشعوب بإيطاليا. 
وائل فاروق يؤكد أن الاختلاف هبة من الله لأنه دون الاختلاف سنظل طرائد وفرائس هذا الفراغ والخواء
خالد عزب يوضح أن الأجانب عاشوا في عمق الريف المصري يونانيين وإيطاليين وأخذوا لقب الخواجة وصاروا نسيجا من حياة المصريين
إيطاليا كان لها دور كبير في إنشاء متحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية

شهدت مكتبة الإسكندرية افتتاح مؤتمر "هبة الاختلاف: التعددية البنَّاءة للذات والآخر (1968)"، والذي يأتي بمشاركة مؤسسة "لقاء ريميني" للصداقة بين الشعوب بإيطاليا. وجاءت الجلسة الأولى تحت عنوان "جماليات الاختلاف: لقاء ريميني نموذجًا"، تحدثت فيها المهندسة هدى الميقاتي؛ نائب مدير مكتبة الإسكندرية، وإيميليا جوارنييري رئيس مؤسسة "ريميني" للصداقة بين الشعوب بإيطاليا، ود. وائل فاروق؛ أستاذ الأدب العربي بالجامعة الكاثوليكية بميلانو.
وأكدت الميقاتي أن مكتبة الإسكندرية لديها عدد كبير من المشروعات والمبادرات المشتركة مع إيطاليا، وذلك منذ بداية إنشاء المكتبة، حيث كانت إيطاليا من أكثر الدول الداعمة لمشروع بناء مكتبة الإسكندرية. ولفتت إلى أن المكتبة تجسد قيمة الاختلاف وأهميته، فقد تعاونت الدول والثقافات المختلفة لإنجاح تلك المؤسسة إيمانًا منهم برسالتها وأهدافها، وهو التنوع الذي أثرى المكتبة بفكر متعدد يتجلى في مجموعتها من الكتب. 
وقالت الميقاتي إن إيطاليا كان لها دور كبير في إنشاء متحف المخطوطات بمكتبة الإسكندرية، حيث قدمت التدريب للمتخصصين في ترميم المخطوطات، وقد أصبح المتحف رائدًا في ترميم المخطوطات في المنطقة. وشددت على أهمية هذا المؤتمر الذي يسعى لتعزيز قيم الحوار وقبول الآخر والاحتفاء بالاختلاف والتنوع.

المسلمون يحترمون الرموز الدينية بمختلف الأديان، وهذا نابع من إيمانهم بالأديان السابقة الذي يعد أساس للإيمان بالدين الإسلامي ولذلك هم يتعايشون معها ويحترمونها

أعربت إيميليا جوارنييري رئيس مؤسسة "ريميني" للصداقة بين الشعوب، عن امتنانها للتواجد في الإسكندرية ومكتبتها، لافتة إلى العلاقة التاريخية الوطيدة التي تجمع إيطاليا ومصر، خاصة مدينة الإسكندرية. وقالت إن المكتبة القديمة أنشئت لتكون مركزًا يجذب ثقافات عصرها، واليوم تتخذ مسارًا ثقافيًا يسعى لاستخدام الثقافة كوسيلة للقاء والحوار بين الشعوب، وهي خبرة مشتركة مع تجربة لقاء ريميني للصداقة بين الشعوب في إيطاليا.
وأكدت أن ملتقى "لقاء ريميني" أنشئ ليجذب كل ما هو جميل وحقيقي في العالم، فهو يسعى لتوطيد الثقافة بين الشعوب، ويحث الإنسان على أن يكتشف المصادر الحقيقية التي يجد فيها صورته ومعتقداته. وأن الملتقى بدأه مجموعة من المسيحيين في رحلة للبحث عن أشخاص وثقافات مختلفة عنهم، ورغبة في اللقاء والحوار مع الآخر، وقد أنجز العديد من اللقاءات التي استهدفت جميعها التعرف على الآخر والتواصل معه. 
وأشارت إلى أنه بينما تجتاح العالم مأساة الحروب والعنف، هناك منظور أوروبي جديد يختلف في قراءته للواقع، يسعى للتغلب على فكرة الخوف من الآخر، ويؤكد أن جميع إنجازات الإنسان نتجت عن المحبة وليس الخوف.
 وقال د. وائل فاروق أن لقاء ريميني للصداقة بين الشعوب هو حدث ضخم يشارك فيه 400 محاضر من 60 دولة، بالإضافة إلى مشاركة ثلاثة آلاف متطوع كل عام. وأضاف أن اللقاء على مدار أربعين عاما من تأسيسه شهد مشاركات رموز وشخصيات عالمية منهم البابا يوحنا بولس الثاني وهلموت كول ونصر حامد أبو زيد وعمرو موسى ود. مصطفى الفقي.
وأوضح أنه في عصر الـ "big data"  يلجأ كثير من الناس الى الصور النمطية لفهم عالم ما بعد الحقيقة الذي تتدفق فيه المعلومات بلا حدود، ثم ينقسمون إلى معسكرين الأول معسكر الصدام بين الصور النمطية حيث تكون المهمة المقدسة هي إقصاء المختلف بالعنف والقتل كما يمارسه الإرهابيون الذين ينسبون أنفسهم إلى الإسلام، أو بطرد المهاجرين وتركهم يموتون في البحر كما يدعو متطرفو اليمين في الغرب، أما المعسكر الثاني فهم الأخيار الذين يسعون إلى تجنب الصدام بالحوار وأنه في سبيل الحوار والتعايش المشترك لا بد ـ كما يقول كويشيرو ماتسورا المدير العام السابق لليونيسكو ـ من تجاوز الاختلافات والفروق التي تميز ثقافة عن الأخرى، وهو ما يعني إقصاء الاختلاف.

الاختلاف أساس المعرفة
الأديان أعضاء في جسد واحد

وأضاف فاروق "نحن نعيش في عالم يمارس كله الإقصاء، إقصاء المختلف وإقصاء الاختلاف، لقد فرغت هذه الثقافة كلمات مثل التسامح من معناها، يمكننا ألا نحترم ثقافة الآخرين، يمكنني حتى أن أكره الآخرين ما دمت قادرا على التسامح معهم، يمكنني حتى أن أتجاهل وجودهم تماما كأنهم كائنات لامرئية نشعر بوجودها دون أن نعرفها وهذا أيضا من صيغ التسامح، إنه التسامح المسموم، يخفي شعورا بالزهو وبالتفوق العرقي أو الثقافي أو الديني. 
إن صور التسامح المعاصرة تتناقض مع مفهوم الشهادة المركزي في الأديان الإبراهيمية الثلاثة، والشهادة يكون دافعها الرئيس هو وعينا باختلافنا ومحبتنا له محبة لا نستطيع أن نعيشها في غياب الآخر، تختلف الشهادة عن التسامح في أنها تقتضي حضور الذات بنفس القدر الذي تقتضي به حضور الآخر. يقول دون لويجي جوساني "الشهادة دعوة للتحرر ليس فقط من محدودية المجتمع وشروطه وإنما دعوة للتحرر من محدودية معرفتنا بذاتنا ولا يمكن للوعي بالذات أن ينطلق إلى آفاق أرحب في غياب المختلف والاختلاف".
ورأى فاروق أن الإسلام ينظر إلى الأديان على أنها أعضاء في جسد واحد، وما كان بناء النبوات ليكتمل بالنبي محمد إذا غاب أي من هذه الديانات، لقد استمرت هذه الفكرة في التقليد الإسلامي بصور مختلفة، فنجد إخوان الصفا في القرن الرابع الهجري يصيغون نفس الفكرة في استعارة أخرى شبهوا فيها الإنسانية بالرجل الذي تصيبه الأمراض المختلفة فيصف له طبيبه ـ الله ـ أدوية ـ أديان ـ تختلف باختلاف الأمراض، ويظل غياب أي منها تهديدا لحياة الإنسانية، الآخر كما يقدمه التقليد الإسلامي هو شريك يضمن حضوره الكمال الإنساني ويهدد غيابه الحضارة الإنسانية.
وختم وائل فاروق مؤكدا أن الاختلاف هبة من الله لأنه دون الاختلاف سنظل طرائد وفرائس هذا الفراغ والخواء.
وفي الجلسة الحوارية في إطار المؤتمر والتي جاءت بعنوان "الاختلاف أساس المعرفة"، شارك كل ماركو بيرسانيللي؛ أستاذ علم الفلك بجامعة ميلانو، والناقد د. صلاح فضل؛ نائب رئيس مجمع اللغة العربية، والمؤرخ د. خالد عزب؛ رئيس قطاع المشروعات المركزية بالمكتبة. وأدارها د. أشرف فراج. حيث عرض بيرسانيللي تطور الدراسات الفلكية عبر القرون والتي بدأت من الحضارة الفرعونية وحضارة بابل في العراق مرورًا بالعصور المختلفة، مؤكدًا أن السماء جذبت انتباه الإنسان منذ بداية البشرية وجعلت لديه رغبة في المعرفة والتوسع، ومع تطور البشرية أصبحت تحمل للبعض رمزًا دينيًا وروحانيا.
وأضاف أنه عن طريق دراسة فيزياء النجوم في الوقت الحالي ندرك أن تاريخ الكون وكل مراحل تطوره كانت أساسيه لوجود الأرض، كما أن الإنسان في مركز الكون وهذا ليس من المنظور الجغرافي ولكن من المنظور المعرفي، فهو دائمًا يبحث لمعرفة أسرار ما يدور حوله. 
وقال د. صلاح فضل إن البشرية انساقت منذ بداية الخليقة لكي تجعل من الاختلاف الذي بينهم وقودًا للحروب، وجاءت الأديان جميعها لتهدي البشرية إلى أن التغير والاختلاف سبيلاً للتعارف والتكامل، فاختلاف الذكر والأنثى هو سبب بقاء النوع، كما أن تنوع الأمم في الثروات والإمكانيات يؤدي في النهاية إلى التكامل.
وثمَّن فضل دور مؤسسة "ريميني"، مؤكدًا أن ما تقوم به هو قمة ما يمكن أن يصل إليه الوعي الإنساني، وأن الاختلاف طبيعي وغريزي وجهد الإنسان المبدع هو أن يجعله نعمة وهبه وفضل يتمسك به ويحرص عليه ليحقق قيم الإنسانية في الحق والخير والجمال، ضاربًا المثال بالآداب والفنون التي تعتمد على هذا المبدأ الجوهري وهو تناغم الاختلافات.
وانطلاقا من رؤيته للتسامح واللاتسامح تساءل د. خالد عزب هل المجتمع المصري متسامح مع الآخر؟ وقال في حقيقة الأمر يبدو لنا حين نسبر غور الثقافة المصرية ومرادفاتها نجد إن مصطلح التسامح لا محل له من الإعراب في هذه الثقافة، فهذا المجتمع يعرف شيئا آخر نستطيع أن نطلق عليه التعايش، أدرك المصريون منذ قديم الأزل تنوع الأعراق والأفكار وفكرة التنوع الإنساني لذا كانت مصر بلدا للمهاجرين القادمين من أثيوبيا (شاهد أوبرا عايدة التي تعكس ذلك) أو من أفريقيا أو من آسيا عبر فلسطين أو من غربها الذين حكموا مصر في أواخر العصور الفرعونية، أو حتى في العصور العربية الإسلامية المتتالية حتى العصر الحديث، ثم العصر الحديث والحقب المعاصرة، حيث عاش الأجانب في عمق الريف المصري يونانيين وإيطاليين وأخذوا لقب الخواجة وصاروا نسيجا من حياة المصريين. 
هذا البلد الذي يمتص الغرباء ويعطيهم شخصيته وسرعان ما يجعلهم جزءا من نسيجه بل يجعل من بعض الكلمات الوافدة من لغتهم جزءا من العامية المصرية على نحو الكلمات الإيطالية "استبينا" أي اتفقنا، "فالصو" أي مزيف، "بسطا" أي نوع من الحلويات، "الجاتوه" وهكذا. لقد استبدال المصريون التسامح بالتعايش إدراكا وتقديرا لقيم الاختلاف والتنوع الإنساني.
وأشار عزب إلى متحف الأديان الذي تعمل مكتبة الإسكندرية على إنشائه ويحمل شعار "مصر أرض التسامح" تعزيزا لدور المتحف في منظومة القيم وهو ما يتواكب مع تطورات دور المتحف دوليا، مشددًا على أن المسلمين يحترمون الرموز الدينية بمختلف الأديان، وهذا نابع من إيمانهم بالأديان السابقة الذي يعد أساس للإيمان بالدين الإسلامي ولذلك هم يتعايشون معها ويحترمونها.
وفي الختام، أكد د. أشرف فراج أن المجتمعات التي ضربتها آفة العنصرية هي مجتمعات مريضة هشة لم تستفد من إمكانيات وهبه الاختلاف وتعيش في أزمة خلق الإرهاب وعدم القدرة على التعايش والتكيّف، عكس المجتمعات التي نجحت في الاستفادة من التنوع بها مثل دولة كندا.