لماذا لا نقاوم استبداد وسائل التواصل الاجتماعي

ثمة خطر في أن تجعل تلك التكنولوجيا الاجتماعية الإنسان لا يقدّر مستوى التكبر على الآخر في داخله، أو التوهم بأنه يتمتع بقدرة فائقة على قلب الحقائق وتزوير عصي على الكشف.
استبداد وسائل التواصل الاجتماعي

تركز الزوجة على جهازها الذكي بطريقة جعلتها تغض النظر عن كل نداءات زوجها على أهميتها، فقلقها يكمن في ما تتابعه على إنستغرام، ثمة غيرة وحسد ومباهاة وتعبيرات عن مودة زائفة من صديقات حقيقيات وافتراضيات، لقد اختصر عقلها ذلك الوقت في ما تتابعه على هاتفها، بينما أقرب الناس إليها لم يعد له وجود، استبداد تويتر وفيسبوك وإنستغرام صار أقوى من الحب بين الزوجين.

ويتم تبادل الأدوار في المشهد نفسه، فالزوج بصلافته المعهودة لا يعبأ بكل طلبات الزوجة وهو يركز على ما نشره الأصدقاء المفترضون على فيسبوك، بل إنه لا يفرط بالرد على رأي زميل أو صديق افتراضي على تويتر وإن تطلب الأمر ترك أفراد الأسرة ينتظرون على مائدة الطعام. ثمة تعجل وأهمية مقلقة في الكلام الساخن، وقبول هش في النهاية بالطعام البارد!

قد تلحق تلك الدقائق المتوترة بين الإفراد داخل الأسرة الواحدة نوعا من الندم على هذا الخضوع لاستبداد وسائل التواصل، لكن مثل هذا الندم يتلاشى بعد دقائق، ويعود الإغراء للمواقع بقوة أكثر، هناك سحر يصيبنا بالوهن ويشدنا إلى الجهاز ممزوج برفض داخلي، لكن الأول يتغلب دائما وتذهب سدى كل الخيارات الأخرى والوعود المقاومة للأجهزة الذكية، فلم يحدث أن تخلى أي شخص عن هاتفه الذكي، وإن حدث ونجح أحدهم في التخلي عنه لعشرين ساعة فإنه على استعداد لقضاء ضعف هذا الوقت في البحث عنه.

كذلك يتساءل سام ولفسون الكاتب في صحيفة الغارديان البريطانية: لماذا ينحني الناس إلى الضغوط الاستبدادية لوسائل التواصل الاجتماعي؟

ليس من المفيد أن نعود إلى كلام الروائي الألماني الراحل غونتر غراس، لكن التذكير به يمتلك أهميته عندما وصف مواقع التواصل بالفكرة البغيضة رافضا أن يكون جزءا منها، معتبرا أن من لديه 500 متابع لا يوجد لديه أي أصدقاء، فالتجارب الافتراضية الظاهرية على الإنترنت –حسب غراس- لن تكون بديلا عن التجارب المباشرة.

فجيل الهواتف الذكية قد وضع التجارب المباشرة في متحف التاريخ الرقمي ويرفع بقوة الصداقات الافتراضية. على سبيل المثال يتفقد الأميركيون هواتفهم الذكية ثمانية مليارات مرة في اليوم، بحيث يُعطون البيانات مع كل تفاعل يقومون به.

مع ذلك ينمو الرفض بدرجة واعية داخل فئات كبيرة من المجتمع لمثل هذه الضغوط الاستبدادية للسطوة الرقمية على حياة الإنسان وعلاقته بالآخر، لأن هناك صراعا خاصا يتفاقم مع أصدقاء كانوا حقيقيين نلتقي بهم بشكل دائم في جلسات المقهى، وأضحوا افتراضيين على مواقع التواصل، وأصدقاء افتراضيين تعرفنا عليهم من دون أن نلتقي بهم. هناك مكائد يومية ورياء وتعبير مزيف وسطحي عن النفس وتعجل في تقييم الآخر واتهامه من دون تردد أو روية، مواقع التواصل الاجتماعي جعلتنا نفقد رباطة جأشنا ونعرّف أنفسنا من دون تردد بما نكره! وتلك لعمري أسوأ مواصفات جيل الهواتف الذكية.

لا يوجد تفسير عند فيسبوك وتويتر لأيقونة التفضيل، سوى أنك تفضل تلك الصورة أو الكلام لأن هناك بالأساس كراهية مضمرة.

هناك خط فاصل بين الصداقة والفتنة على مواقع التواصل حسب تعبير سام ولفسون، بين الواقع وبين ما يحصل على الإنترنت من تفاعل اجتماعي تكون فيه التكنولوجيا وسيطا.

ثمة خطر في أن تجعل تلك التكنولوجيا الاجتماعية الإنسان لا يقدّر مستوى التكبر على الآخر في داخله، أو التوهم بأنه يتمتع بقدرة فائقة على قلب الحقائق وتزوير عصي على الكشف، وثمة وهم في ما نبديه بمدوناتنا الشخصية جعلنا العصر الرقمي نعتقد أنه حقيقة.

كل التعريفات المقترحة لفيسبوك وتويتر أهملت هذا الخطر الذي يهدد الإنسان بجحيم يستهلك الوقت، وركزت على أنّ كلا منهما منصة حية لوسائل الإعلام، وعند آخرين مجتمع ديمقراطي يسمح بالتحادث على قدم المساواة، فيما يختصر البعض مهمة تويتر بالحرية بصفته ملاذا مفتوحا بلا قيود غير القيم الشخصية للمغرد والرادع الأخلاقي الذي يتمسك به.

إلا أن الروائي الأميركي جوناثان فرانزين الذي يوصف بأنه من بين أهم الروائيين المعاصرين، سبق وأن حذّر الجيل المعاصر من إضاعة وقته في المزيد من التغريدات عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بدلا من تطوير أدواته في الكتابة، واصفا الكتابة بأنها ليست مؤسسة طائفية جماعية كي تجمع حولها الآخرين، بقدر ما هي جهد خيالي شخصي.

مع ذلك أنفق الكاتب الأميركي بريت ايستون إيليس، في السنوات الأخيرة في سياق أحاديثه مع نصف مليون من متابعيه في تويتر، وقتا فاق بكثير الوقت الذي خصصه لروايته القادمة.

إلا أن فرانزين الذي سبق وأن وصف بلاده بأنها مصابة بالسعار في ما يتعلق بالسياسة، اعترف بأنه يستخدم التكنولوجيا في الكتابة من دون أن يسمح لها بإرغامه على إدمانها، لأنها بالنسبة له لا تملك الكثير لتفعله حيال تطوير حسه الإبداعي.

وشبّه التكنولوجيا بأنها تنخر بعيدا عنه، لأنه يكتب بخياله، موضحا بأن هذه الحشود من التغريدات المتواصلة على تويتر لا تقدم شيئا للكتابة الروائية، لأنها فعل جماعي مشترك لا يعمل مع الخيال الفردي المبتكر. وعبّر عن قلقه أن تكون التكنولوجيا القسرية سببا في خفوت الخيال لدى الكتاب مستقبلا.

لكننا لسوء الحظ، عقدنا جميعا حلفا مع الشيطان حسب تعبير جودي دين المهتمة بشؤون محتوى الإنترنت، وهي تشير إلى علاقتنا مع الإنترنت تحديدا وهوسنا بالرابطة الرقمية مع الآخر.

هكذا ستظهر النوازع الشخصية في كل تعريف مقترح من قبل المغردين، كما ستطفو المصالح في طبقة عليا إلى الحد الذي ستحجب فيه النظر عن قيم المعرفة وشيوع المعلومة المفترضة في هذا الفضاء الشاسع.