لمَ نحن ممتنون للجهل؟

الفكر الإنساني عاش أكثر التجارب عنفا مع المعرفة، بحكم ارتباطه بالعقلانية من جهة، ومواجهته للأحكام المسبقة من جهة أخرى.
الإنسان عاد لسجيته الأولى في أول ظهور للفيروس التاجي مبررا ذلك بتخصص ذوي المعاطف البيضاء دون غيرهم
المحطات التلفزيونية والمنصات الإلكترونية صارت تشل ذهن المترقبين بالكيفية الصحيحة لغسل اليدين، ووسائل تجنب العدوى

ماذا لو لم تكن كورونا، ماذا لو لم تفصح الطبيعة عن انطباعاتها تجاه استغلالنا، هل كنا نعترف بجهلنا أم كنا استمرينا في إدعاءاتنا الدائمة، إننا نفهم كل شيء وحتى ما لم نفهمه الآن نحن في طريقنا لفهمه؟ 
عاش الفكر الإنساني أكثر التجارب عنفا مع المعرفة، بحكم ارتباطه بالعقلانية من جهة، ومواجهته للأحكام المسبقة من جهة أخرى، غير أن ذلك لم يكن كافيا للإعتراف بلاأدريتنا لأكثر من اعتبار.  
طالما واجهت وسائل الإعلام صدا صارخا في وجه "لا أدري! وحلت محلها "ماذا أعلم؟!" غير أن الإنسان عاد لسجيته الأولى في أول ظهور للفيروس التاجي مبررا ذلك بتخصص ذوي المعاطف البيضاء دون غيرهم بذلك، هذا في وقت أعرب حتى هؤلاء بجهلهم النسبي  بالفيروس الجديد . اشتبك العالم مع النظافة ككل مرة لكن بصورة قهرية، فالإمتناع عن الماء والصابون طريق سيار نحو أقرب مقبرة للبيت، وصارت المحطات التلفزيونية والمنصات الإلكترونية تشل ذهن المترقبين بالكيفية الصحيحة لغسل اليدين، ووسائل تجنب العدوى، تحسر المحجوزون على الساعات التي هذروها بالخارج خلوة وانفجر فجأة حنين جمعي للماضي، حيث يطرح الجهل بالأمور بدافع إرادة  المعرفة وليس السخرية.  

فكرة شوبنهاور حول إرادة الحياة فهمت بشكل عكسي لمدة طويلة فهو لم يكن متشائما بقدر ما كان متفائلا
 

طرح فيما قبل مونتين سؤالا: "ماذا أعرف؟"، لحدود جعل منه استفهاما تفنن من خلاله في استخراج صلب المعرفة من مسائلة المجهول، إحياءً لثرات الشكوكيين الأوائل للفلسفة اليونانية، إذ تزامنت مع ظهور الأبيقورية والرواقية، لكنها تفوقت عليهما بإقرار قطعي لانتفاء الحقيقة  ما كان من شأنه أن يطمئن الناس ويريحهم من مهمة السعي خلف إدراك اليقينيات، حيث الإفتقار لليقين يحرر ولا يقيد العقل بنظرية معينة دونما سواها، هذا الإشباع المتفطن يفضي بصورة مباشرة نحو التجربة الإنسانية المحضة، وهو ما أبانت عنه الفلسفة وفق تسلسل تاريخي غير منقطع النظير.
لم يبتعد الرومانيون كثيرا على نفس المسار، فتخلوا عن الفلسفة الحالمة مباشرة بعد سقوط موجة المثالية الإغريقية، لتكون روما بذلك طائر العنقاء الذي يحييه  رماده، روما الذئبة الشجاعة  / lupa   متسلحة أمام سقوط العالم بفرسانها ومقاتليها الشجعان، لقد كانت الفلسفة الرومانية فكرة قابلة للتداول تتحرش بالحياة من كل صوب وحين، في وقت صعدت فيه الفلسفة اليونانية نحو السماء، وطرحت التأمل بديلا للنبلاء ورجال الدولة دونما سواهم من الفلاحين والكادحين عبيد وجدو لخدمة الأرض وإرضاء الطبقة العليا مقموعين من الفكر.   
هذا في وقت انطلقت الحكمة الرومانية من المسلمات، إد قدست العمل، ولم تحقره كنظريتها اليونانية، أنزلت التقافة من برجها العاجي، صادرت الجبن وجعلت من الموت شجاعة بيد المقاتلين والمحاربين؛ مؤنسنة بذلك كل فعل وردة فعل بحافز فكري عملي، "هل يستحق ما أقوم به قيمة في الحياة أم لا، هل هو فن أم العكس؟!"  
فصنفت الصداقة علاقة من دون جسد، والحب ارتباطا يتخلله الشغف، فضلا عن قيمة الإرتباطات الإنسانية داخل الدولة المدينة، والتلذذ من خلال الإحتفال وإحياء المسرات الجمعية الساكنة في الثراث الفكري الثقافي للأنثروبولجيا المحلية لجماعة دون غيرها، حيث تتشكل رمزية الوحدة والتعاون من منطلق: اللغة، الفن، الإبداع؛ لاغية بذللك التجسد القيمي بناءً عن العرق أو المعتقد الممهد لإقصاء أقلية أو جماعة ما. فماذا كانت  تتنظر روما أكثر لتجمع شتاتها؟...! كرنفال للرقص والفن كفيل بذلك.  

طالما كان عنصر الفرح أخاذا في الفلسفة الرومانية التي غدق بها الفكر السبينوزي، هذا  في لحظة عاش صاحبها أشد الأمرين النفي الإنتمائي والسياسي دفعة واحدة  ، كم كنت تعيس الحظ يا سبينوزا!!!  
لعل  التفصيل لا ينتهي حول أسبقية النظرية عن التجربة أو العكس. فماذا عن الجمع بينهما في آن واحد. في رأي غير مسبوق يدعو باتريك سلوتردايك إلى الفصل بين العيش والفكر في مزج بين النظرية والتجربة، بدافع تصريف الطاقة فيما هو أكثر أهمية: "العيش بحرارة" بمعنى أوضح لا بد من فرح عابر، لذة سريعة، احتفال من دون مناسبة، من أجل تحقيق التوازن بين ما يفرضه العقل من تحليلات معقدة، وما تستوجبه الحياة من تعايش مع التفاهة القاتلة التي ترمي بنفسها من مكان لآخر، بفعل الإشهار، السلعنة، الفن المتحذلق؛ إذا ما أنهينا الصراع مع الواقع سنرتاح من مساوئ السؤال المتكرر: "ما يجب أن يكون"؛ سرعان ما ستتحول فكرة التفكير ببرودة لمضاد حيوي يقي من نزلات الزكام المطولة إذا ما توقفنا عن محاولة إحياء حذث ما من خلال فكرة قد تغير الوضع وقد تبقي عليه هذا إن لم يزدد سوءا؛ فتنزل خيبة الأمل فوق رؤوس الحالمين.   
في سؤال أخير "لما الفلسفة إذا؟"، بكل بساطة للفهم لم تتعب الفلسفة نفسها يوما للتغيير كانت دوما مهدئا للإستيعاب، فضلا على التأقلم بأريحية مع إحتراف خلق إشكاليات جديدة. لم يخف يوما شبنهاور اشمئزازه من ذم الآمال المعلقة على خيط ريح، مغيبة بشكل كلي السببية والغائية مردا على اكتفائها بالتمني، لقد فهمت فكرة شوبنهاور حول إرادة الحياة بشكل عكسي لمدة طويلة فهو لم يكن متشائما بقدر ما كان متفائلا، إذ يغني الفهم من صدمة مظنية، ويريح الخيار الأسوأ من جرعة الحرمان والقمع الذي يحققه الواقع من دون رحمة، إرداة الحياة لا تعني أكثر مما نحن عليه، كائنات بشرية تقرر مصيرها مع احتمال الخسارة، تجنبا لانتكاسة كبرى، بما أن الفرد راشد قادر أن يطرح السؤال فهو بذلك باحث طفولته، سجيته الأولى الأكثر أريحية.