ليس أمام سياسيي العراق سوى الاستسلام الصعب

صار على الولايات المتحدة إن أرادت التدخل في شؤون العراق أن تتعامل مع شباب الثورة باعتبارهم قادة المستقبل.

تبدو الطبقة السياسية في العراق عاجزة عن الوصول إلى حل لأزمتها التي لا تمت بصلة إلى أزمة العراقيين.

التركيبة الهشة لتلك الطبقة لا تساعد على الوصول إلى قواسم مشتركة بين عناصرها إلا على مستوى الدفاع عن النفس عن طريق العنف.

ذلك الأسلوب أثبت فشله في مواجهة إصرار المحتجين على البقاء في الشارع متحدين آلة القتل، بل أنهم صاروا مع القتل أكثر شراسة في الدفاع عن مطالبهم.

انتقل المحتجون من مرحلة المطالبة بإسقاط النظام إلى مرحلة المطالبة بتقديم رموزه إلى القضاء بسبب المجازر التي ارتكبت بناء على أوامرهم.

تتطور الاحتجاجات لتنفتح على آفاق أوسع فيما تتحجر الطبقة السياسية عاجزة عن الوصول إلى حد أدنى من التفاهم حول صيغة للإنقاذ.

لقد كان الاعتماد على الحل الإيراني بمثابة فخ سقطت فيه الطبقة السياسية من غير أن تملك القدرة الذاتية على الخروج منه.

لن تتمكن إيران من انقاذ أحد في ظل تصاعد وتيرة النقمة بين المحتجين عليها واستمرارهم في توجيه التهم إليها بالمشاركة في القتل.

واحدة من أعظم مشكلات الطبقة السياسية الحاكمة تكمن في أنها ليست مستعدة لخسارة جزء من امتيازاتها.

ذلك أمر صار واضحا بالنسبة للمحتجين الذين يصرون على تنحي الطبقة السياسية من أجل أن يخسر أفرادها كل شيء.

صار الرهان قائما على معادلة، طرفاها كل شيء أو لا شيء. وهي معادلة تشجع المتظاهرين على تصعيد وتائر الاحتجاج وتوسيع دائرته.

فالسلطة التي اُستعملت في غير محلها وصارت تواجه الشعب بالقمع من غير أدنى حق لم يعد في الإمكان التعامل معها باحترام.

كانت هناك فرص عظيمة من أجل أن تحسن الطبقة السياسية من سلوكها ضاعت في ظل انتشار ظاهرة الفساد غير المسبوق تاريخيا.

كان صبر الشعب العراقي لا مثيل له حتى ظن الكثيرون أن ذلك الشعب الذي عُرف بتململه السريع قد خان طبعه وتصالح مع الذل.

غير أن سوء الفهم الذي وقعت فيه الأحزاب الحاكمة كان متوقعا. فهو نتيجة طبيعية لما كانت تلك الأحزاب تفكر فيه حين وضعت نفسها في خدمة المحتل الأميركي ولم تكن كذلك لما وقع اختيار الأميركان عليها.

لم يكن لدى تلك الأحزاب التي انتجت الطبقة السياسية الحاكمة مشروع وطني، تبدأ فيه حقبة تمكنها من السلطة في العراق الجديد الذي وعد الأميركان بأنه سيكون ديمقراطيا.

كان ذلك الوعد كذبة لأنهم سلموا السلطة لأحزاب لا تؤمن بالديمقراطية وكلفوها بتنفيذه. وحين رفعوا يدهم كانوا على يقين من أن الدولة المدنية لن ترى النور في عراق الطوائف والأعراق والمكونات.

لذلك يمكن القول إن صدمة الأميركان بحجم الاحتجاجات الشعبية في العراق وأفكارها الوطنية العابرة للطائفية هي أكبر من صدمة السياسيين الذين كلفوهم بتنفيذ مشروعهم التخريبي.

في بدء الاحتجاجات هناك من راهن على الموقف الأميركي. فإذا ما كانت الطبقة السياسية العراقية لا تملك حلا بسبب انغماسها في الفساد فلابد أن يكون لدى الولايات المتحدة فكرة عن الحل.

ذلك الرهان لم يكن صحيحا.

لقد اختارت الولايات المتحدة من أجل حكم العراق أسوأ أبنائه. منذ البدء لم تكن نواياها حسنة. لذلك استبعدت العلماء والمهندسين والمفكرين والاقتصاديين والمصرفيين النزيهين بل أنها سمحت للميليشيات بقتلهم. ولم يكن في جعبتها سوى الجهلة واللصوص وقطاع الطرق.

لذلك كانت الطبقة السياسية تنتظر طوق نجاة أميركي بعد أن شعرت أن إيران قد ورطتها بالقتل الذي قد يقودها إلى المحاكم الدولية.

ليس فهم الصمت الأميركي عسيرا. فالولايات المتحدة كانت قد حسمت موقفها منذ انسحابها من العراق عام 2011. كانت مطمئنة على مصالحها في ظل حكم طبقة سياسية مستسلمة لفسادها.  

اما حماية تلك الطبقة فقد تكفلت إيران بها.

اليوم قلب شباب العراق تلك المعادلة. صار على الولايات المتحدة إن أرادت التدخل في شؤون العراق أن تتعامل مع أولئك الشباب باعتبارهم قادة المستقبل. وهو ما يفرض عليها التفكير بعراق آخر. عراق لا تحكمه أحزاب الإسلام السياسي ولا تجمعه بإيران أية صلة.