ليس صحيحا أن الاتفاق النووي مازال حيا، الجنازة تأجلت فقط

من العسير على الشركات الأوروبية تحدي الولايات المتحدة والعقوبات التي فرضتها.

تغلبت النزعة الشخصية للرئيس الأميركي دونالد ترامب في النهاية على المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة. الأمر يشبه صراعا سيبقى طوال مدة رئاسة هذا الرئيس، بين ما تريده أميركا، وما يريده هو.

لا يفكر الرئيس الأميركي كأغلبية السياسيين والمتخصصين والباحثين في العالم، لذلك لم يكن غريبا أن يسير عكس كل آراء هؤلاء. لا تنحصر المسألة هنا في الدفاع عن الاتفاق النووي. في النهاية هذا اتفاق ضعيف ومهزوز، مثل إدارة صاحبه باراك أوباما.

ترامب كان محقا في أن هذا الاتفاق لم يكن كافيا على الإطلاق. الرغبة في ترك إرث تاريخي وشخصي لأوباما مثلت روح وفلسفة الاتفاق، الذي كان صفقة ربح بموجبها الجميع. إيران أعطت أوباما الإنجاز الشخصي الذي كان يبحث عنه، وحصلت هي على قنبلتين نوويتين. الأولى، بموجب بند الغروب، تحصل عليها بعد مرور عشرة أعوام على توقيع الاتفاق، والثانية تحصل عليها فورا، وتتمثل في أذرع وميليشيات تعصف باليمن ولبنان والعراق وسوريا كل يوم.

لذلك فمنطق الدفاع عن الاتفاق النووي في العالم العربي، الذي كان أول من دفع ثمن هذا الاتفاق، يشبه من يبيع سلعة تدر أرباحا كبيرة على مالكها، لكن دون أجر. نعم العرب المدافعون عن شكل هذا الاتفاق كما هو، موظفون عند الأوروبيين والروس والصينيين دون أجر.

لكن ليس معنى هذا رفض الاتفاق دون تقديم بدائل. بسبب غياب هذه البدائل، كان يمكن أن يمسك ترامب العصا من المنتصف. يعيد فرض العقوبات، لكن دون أن ينسحب من الاتفاق بشكل كامل. ساعتها كان من الممكن أن يكون أمام الأوروبيين مهلة أخيرة لإقناع إيران بالعودة إلى طاولة التفاوض والتوصل إلى تعديل جوهري لبنود الاتفاق، أو بدء محادثات للتوصل إلى اتفاق جديد.

لكن ترامب ليس رجل الحلول الوسط. هذا رئيس متطرف يتحدث في طهران إلى متطرفين.

المشكلة أن ترامب أثبت براعة في تفكيك الأشياء، وبراعة أكبر في عدم القدرة على تجميعها معا مرة أخرى. ظهر منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض أن الانسحاب من الاتفاقات الدولية هواية شخصية يستمتع بها في وقت فراغه. عندما يكون ترامب جالسا في المكتب البيضاوي ولا يجد شيئا يفعله، أول ما يتبادر إلى ذهنه هو البحث عن اتفاقية كي ينسحب منها. سيتذكر الأميركيون جيدا أن ترامب هو الرئيس الذي أدخل لأول مرة على بلد الفرص والأعراق والمساواة، ثقافة انعزالية لا تؤمن بالغرب ولا بقيمه، وفي نفس الوقت تبحث عن زعامته.

انسحب ترامب من اتفاقية باريس للمناخ دون أن يقدم أي بدائل، وصمدت الاتفاقية على عكس ما كان يتوقع، وانسحب من اتفاقية التجارة عبر المحيط الهادي، وفاجأته أيضا بصمودها دون أن تنهار. أراد أن يفعل الشيء نفسه مع النظام الصحي الذي تركه أوباما، لكن دون أن ينجح إلى الآن، في نفس الوقت الذي يريد فيه الانسحاب من معاهدة "نافتا" للتجارة الحرة مع كندا والمكسيك.

تصورات ترامب نابعة من عقيدتين متوازيتين على المستويين الداخلي والخارجي.

على المستوى الداخلي، يؤمن ترامب أنه كلما اتخذ مسافة أوسع بعيدا عن أوباما وإرثه، كلما حصل على عدد أكبر من أصوات مؤيديه. مع اقتراب انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر، كان الاتفاق النووي مع إيران، الذي ينظر إليه باعتباره بصمة أوباما في السياسة الخارجية، ضربة استباقية للديمقراطيين الذي يأملون في استعادة الأغلبية من الجمهوريين في هذه الانتخابات.

على المستوى الخارجي تتلخص ثقافة الانسحابات المتتالية في أن ترامب لا يرغب في الجلوس مع كيان موحد بتفاهمات مشتركة كالاتحاد الأوروبي أو الناتو أو مجموعة دول جنوب شرق آسيا أو مجموعة 5+1 التي وقعت الاتفاق النووي مع إيران. يميل ترامب أكثر إلى الاستفراد بكل دولة، سواء فرنسا أو كوريا الشمالية أو إيران أو اليابان، للتفاوض معها على حدة، ضامنا بذلك تفوقا اقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا للولايات المتحدة، التي ستوظف هذا التفوق لتحقيق مصالحها من أي عملية تفاوض.

ليس صحيحا أن انسحاب بلاده من الاتفاق النووي مع إيران يهدد التوصل إلى اتفاق مماثل مع كوريا الشمالية، التي يستعد للقاء زعيمها خلال الأسابيع المقبلة. ترامب لا يفكر بهذه الطريقة.

بالنسبة للرئيس الأميركي، الانسحاب من الاتفاق بهذه الطريقة جاء أساسا من أجل تسهيل الاتفاق مع كوريا الشمالية. الإدارة الأميركية تريد من كيم جونغ أون التخلي تماما عن برنامجه النووي. هذا يعني كل قنبلة وكل صاروخ وكل حفنة يورانيوم مخصب وكل منشأة تخصيب على أراضي كوريا الشمالية. لم يكن منطقيا إذن أن تبدأ الولايات المتحدة التفاوض معه على هذا الهدف، في نفس الوقت الذي تبقى فيه جزءا من اتفاق آخر يسمح لإيران بالاحتفاظ ببرنامجها النووي بعد عام 2025. لن يكون هناك شرعية لدى الولايات المتحدة للقيام بذلك. هذا يعني أن ترامب أراد التخلص من اتفاق "سيء" مع إيران، من أجل التوصل إلى اتفاق "جيد" مع كوريا الشمالية.

لكن الاتفاق النووي مع إيران مختلف. المسألة هنا لا تتعلق فقط بتحقيق مكاسب تجارية للأوروبيين كما هو مفهوم على نطاق واسع.

طوال الشهور الماضية أوروبا كانت تقول شيئين: أولا، إن إيران ملتزمة بالاتفاق وليس لديها نية لامتلاك سلاح نووي؛ ثانيا، أنه يجب الحديث، إلى جانب بنود الاتفاق، عن تشديد الرقابة على المنشآت النووية، وعن برنامج إيران للصواريخ الباليستية ونفوذها المزعزع للاستقرار في الشرق الأوسط.

لكن من وجهة نظر الأوروبيين، ما هو السبب الجوهري الذي من الممكن أن يقنع الإيرانيين بالتفاوض على التوصل إلى اتفاقات حول هذه البنود الإضافية، طالما الغرب ليس بمقدوره الحفاظ على الاتفاق الوحيد الذي وقعه مع إيران إلى الآن؟

إلى جانب تورط الشركات الأوروبية، بالفعل، في اتفاقات مع شركات إيرانية وهو ما يجعلها مكشوفة أمام العقوبات الأميركية، تخشى أوروبا أيضا من غياب البديل. منذ اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، صارت أوروبا أكثر حساسية تجاه أي سلوك قد يتسبب في اندلاع صراع في المنطقة. هذا يعني ارتفاع منسوب العمليات الإرهابية على الأراضي الأوروبية، وصعود موجة لاجئين أخرى تغرق أوروبا، وقد تتسبب هذه المرة في تفكك الاتحاد الأوروبي تماما.

المسألة إذن متعلقة بالأساس في موقع أوروبا الجغرافي الملاصق للشرق الأوسط. هذا يجعل الصواريخ الباليستية بحوزة إيران بمداها الحالي قادرة على الوصول إلى قلب أوروبا.

بعد محاولاتها لإقناع ترامب بالبقاء في الاتفاق، لم يعد ثمة خيار أمام أوروبا الباحثة عن الحفاظ عليه سوى إقناع إيران بالبقاء فيه. لا ترغب إيران بأكثر من ذلك. بقاؤها في الاتفاق معناه صدع كبير بين أوروبا والولايات المتحدة، وتعميق للخلافات، خصوصا حول العقوبات وفرص الاستثمار والمصالح، بين الجانبين. تأثير هذا سيكون بمثابة الموسيقى على آذان الإيرانيين.

مع ذلك كل المؤشرات تقول إن الاتفاق لن يكتب له الاستمرار بعد خروج الأميركيين. ليس سهلا على الشركات الأوروبية تحدي الولايات المتحدة والعقوبات التي فرضتها. إذا وضعت أمام الاختيار، فستختار حتما السوق الأميركية على حساب السوق الإيرانية المنهارة، واتفاق نووي سينهار معها على الأرجح.