"ليل القرابين" وأحادية الفضاء المظلم

الفضاء يمضي في مجموعة أحمد إسماعيل إسماعيل المسرحية ليعبّر عن المكان المغلق الذي هو بالطبع السجن، بمعانيه المختلفة.
الكاتب يرصد التناقض بين الواقع والمتخيل، والمواقف المختلفة والمتغيرة
النص المسرحي يبدأ قوياً، تصاعدياً، متدفّقاً، مشتداً، يحمل في طياته تشويقاً وإثارة         

لا تكاد معالم الظلم تستقر إلا في قلب ذلك الليل المتشح بالسواد، والذي تتوضح دلالاته من خلال العنوان، الذي جعله الكاتب مفتاحاً لمفاجآت تتلو خلف بعضها البعض؛ في زمن يشتكي الألم والمعاناة مثل أصحابها الذين تتنوع مصائرهم، وتتوزع على مدى صفحات جعل منها الكاتب باباً طرقه جميع هؤلاء، ومن دون وعي منهم، أو حتى إرادة بامتلاك القرار الحاسم، والمصير المشترك الذي كان لهم جميعاً؛ في أن يصبحوا قرابين لذلك الليل، الذي قصد به ليل العبودية، ليل القتل، الجوع، الحرمان، الدم، الأضاحي، الظلم، وأد الأحلام، وأخيراً وليس آخراً بالطبع؛ ليل الإجرام والوجع، الذي لا يزال يحمل مديته ليغرسها في أوردتهم، فينساب منها الدم؛ ليروي عطش الأرض التي يبدو أنها هي أيضاً - ومن خلال الحكايات التي روتها دواة كانت تكتب آلامها بدلاً من الكلمات والأسطر - وما زالت مشتاقة إلى النهل منها، لتشبع شبقها اللانهائي لها، لتبقى أسطورة الموت قابعة فوق رؤوس أبناء الشرق التعيس، الذي تحدث عنه عبدالرحمن منيف في كتابيه (شرق المتوسط، والآن... هنا شرق المتوسط مرة أخرى)، وغيره الكثيرون، لتكون للشرق كلمته الأخيرة، وينداح الطوفان نحو مده الأخير، حتى يشبع غرور السجانين، والظالمين، والذي لا يعرف حداً يقف عنده.

دور كبير للإيقاع الذي هو عنصر أساسي من عناصر بنية النص، ويعنى بالأحداث، وكيفية وقوعها، وتشكّلها وتنظيمها       

الفضاء يمضي في هذه المجموعة ليعبّر عن المكان المغلق الذي هو بالطبع السجن، بمعانيه المختلفة؛ سجن الواقع، وسجن الحياة الواسعة، وسجن الروح والذات، ليدور معه في حركة مغلقة ودائرية معاً، وينبئ عن كل تلك الحالات دفعة واحدة، وعلى وجه الخصوص سجن الذات، التي صارت هي انعكاسا لكل تلك السجون، والمعبّر الأفضل عنها، فتعود كلما انتهت من مآسيها وآلامها إلى نقطة البداية، ليتضح بعد كل تلك الأزمنة أن الموت لا يزال قابعاً في قلوب الشعوب، وأن كل ما قام به البشر من نضال وكفاح من أجل نيل الحرية ذهب أدراج الرياح، لأن القهر يجرّ عربته مرة أخرى، ليسير بها فوق تلك الأجساد العارية، والتي أكلت منها سياط الظالم، وشبعت.
ستّ مسرحيات تروي حكاية القهر
تحتوي المجموعة المسرحية على ستّ مسرحيات هي على التباع: (ليلة السجين السعيد - القربان - مصير- مجرّد مُزاح - نسرين - عجوز في الغابة)، في كتاب يقع في 186 صفحة، من القطع المتوسط، والصادر عن دار الدروايش، عام 2019، في مصر، وتشهد على المصير المجهول لهؤلاء الذي ارتضوا أن يكونوا الحمقى الذي قبلوا الاشتراك في أداء أدوارها؛ كما ذكر ذلك الكتاب سليم بركات عن أبطال روايته "فقهاء الظلام"، أو المظلومين الذي جار عليهم الزمن، بتعبير أدقّ، فما صاحب نص ليلة السجين السعيدة؛ والوقائع التي شهدها ذلك السحين في حياته، خلال الفترة التي عاشها في سجنه الذي عانى منه الأمرّين، ليدفع ثمن الخلاص منه الكثير من الدماء والدموع، بأفضل من صاحب القربان، الطفل الذي صار في النهاية قرباناً للحاكم وزبانيته، الذين رفضوا إلا أن يضحوا به من أجل إرضاء نزواتهم، وجبروتهم، لنشهد أيضاً المصير نفسه يلاحق أبطال مسرحية نسرين، وعجوز في الغابة، ومجرّد مُزاح، ومصير، ويشملهم جميعاً، واضعاً إياهم في خانة واحدة، ويضع جلادهم أيضاً في الخانة المقابلة لهم، والذي لا تهدأ ثائرته إلا بأن يرى منظر الدم، فتهيج كل غرائزه الوحشية، ولا يتسكين بعدها، إلا بأن يشهد بنفسه على قتلهم، ليتأكد بأنه تخلص منهم، وبأنه لا قومة لهم بعد ذلك، لأن قيامتهم تعني تنغيص عيشه، وتنكيده. 

Stage
قرابين في ليل لا يعرف الرحمة

مسار واحد
تمضي مصائر بعض أبطال هذه المجموعة نحو النهاية المتوقعة، ألا وهي أن يصبحوا قرابين في ليل لا يعرف الرحمة، والآخر إلى الهجرة والاغتراب عن الوطن في رحلة أبدية، عنوانها البحر، الأمواج، الخوف، غضب الآلهة، الأرواح التائهة في عرض البحر، الصيحات التي تحاول كل ما أمكنها من أن تتفادى الموت في رعب شديد، والأطفال الذين يحاولون أن يتمسكوا بخناق آبائهم؛ ظناً منهم بأنهم قادرون على صنع المستحيل من أجل إنقاذهم، ومن خلفهم الآباء الذين يدركون بأنه حانت ساعة الرحيل، ليس إلى الغرب، كما هو مفترض، بل إلى الموت غرقاً، مع أطفالهم، ليرتوي البحر الذي طالما أكل من تلك الأجساد الغضة، ونال منها، ليصبح فعله النشيد الذي تغنى به الكثيرون، النشيد الذي يروي عن الموت، وعن وطن تائه، وأناس دفعتهم رغبة الخلاص إلى التداوي من البعد بالبعد.
يعود الكاتب بالنصوص كلها إلى الظروف التي عاش فيها أبطال مسرحياته، ليشرح التفاصيل التي عاشها كل واحد منهم، والحرمان الذي تعرضوا له طوال فترة إقامتهم في عالم خلا من كل شيء جميل، حافل بالوجع، وهو الذي دفعهم إلى المصير المجهول الذي لاقوه في هذه النصوص، ليعكس بذلك صورة واضحة عن عوالم تحتاج إلى التوقّف عليها، ومعالجتها درامياً، لما تحتويه من أحداث تستحق ذلك، وهي بحاجة إلى أن يكتب عنها.
إيقاع الأحداث
يعتمد الإيقاع بالطبع على عناصر أساسية في النص؛ تدفع به إلى النهاية التي تقع على نحو قد تتفق مع رؤية القارئ، أو تختلف عنه، وهنا يدفع الكاتب بالأحداث إلى حيث لا يستطيع القارئ التكهّن بها، على الرغم من دلالة العناوين التي ربما تخلق تصوراً يدل على أفق متوقع؛ كما هي وظيفة العنوان، ولكنها - الأحداث - تمضي إلى وجهة أخرى، فبضعها يحمل في داخله إرهاصات لغد جميل، وبعضها يوحي بالحلّ الثوري والجذري، والذي يطرحه بأسلوب، وطريقة رمزية، تدل عليه الأحداث التي تجري بشكل متسارع في النص، وتتصاعد منذ اللحظة الأولى في كل مسرحية، وذلك بسبب الطابع الذي تحمله هذه المسرحيات في داخلها، والانطباع الذي يحمله الكاتب عما يكتبه، وعن الأفكار التي يطرحها في بنية النص، فيؤثر أن يدفع بها منذ البداية إلى القوة، ويجعلها تمضي إلى الغاية التي رسمها لها، أو حتى التي من المفترض أن تكون عليها، وذلك لتنحّيه في بعض المواطن عن الحدث، فيترك البطل يعبر عن نفسه، وهمومه وآلامه بطرائق متعددة، مستخدماً أسلوب التداعي الحرّ، والنجوى، والاتكاء على الذكريات، وسردها على نحو متطابق مع الحالة النفسية والشعورية لديه، وهذا ما يؤكد على الدور الكبير للإيقاع، الذي هو عنصر أساسي من عناصر بنية النص، ويعنى بالأحداث، وكيفية وقوعها، وتشكّلها وتنظيمها، كما يرصد التناقض بين الواقع والمتخيل، والمواقف المختلفة والمتغيرة، ويبدأ قوياً، تصاعدياً، متدفّقاً، مشتداً، يحمل في طياته تشويقاً وإثارة.