ماء العسكر ولا دماء الثورة

موجة أخرى من "الربيع العربي" تضرب ضفاف المنطقة العربية.

فيما الجيوش السودانية والجزائرية والليبية تبحث بين العسكر عن عسكريين جدد يتولون الأحكام ويحطمون انتفاضة شعوبهم، كانت مركبة فضائية إسرائيلية تهبط - ولو محطمة - على سطح القمر. فارق كبير بين تحطيم الحجر وتحطيم البشر، إلا إذا كان العالم العربي لا يزال في العصر الحجري. وفارق كبير بين شعوب وصلت إلى القمر وأخرى ما لبثت في عهد الثكنات، إلا إذا كانت الأخيرة ما فتئت بعيدة عن الديمقراطية مسافة الأرض عن القمر.

بين الجزائر وليبيا والسودان تتنقل الشعوب من ثكنة إلى أخرى. تغتسل بالماء ذاته فلا تنظف. تخشى أن تغير ماء العسكر فتقع في دماء الثورة. اغتيال "الربيع العربي" في تونس ومصر وليبيا وسوريا والعراق واليمن جفّل الشعوب العربية الأخرى فخافت أن تصيبها المآسي ذاتها، فلم تكمل فصل "الربيع العربي" الحقيقي. وأصلا، من دون دعم خارجي لا تذهب الشعوب العربية أبعد من التظاهر، وإلا واجهت القمع حتى القتل الجماعي. وإذا حظيت بدعم، فليست تعرف نيته وجديته وصدقه وهدفه النهائي. منذ سقوط السلطنة العثمانية، تجارب الشعوب العربية مع الدعم الخارجي، غربيا كان أو شرقيا، لا تشجع على طلب المزيد. وإذا صادف أن أخلصت اليوم دولة أجنبية في دعم حركة تحرير عربية، تسارع إسرائيل إلى حرفه نحو مسارات أخرى.

مع أحداث الجزائر وليبيا والسودان تبدأ الجولة الثانية في مسار التغيير الجامد في العالم العربي/الإسلامي. الجولة الأولى انطلقت أواخر 2010 وبداية 2011 بعد حروب وثورات مدمرة في لبنان وإيران والعراق وفلسطين بين سنتي 1975 و2003. وإذا كان باكرا التنبؤ حول مصير الجولة الثانية وحتى مصير الأولى، نورد خمس ملاحظات عامة:

1) الجولتان الأولى والثانية بدأتا من المغرب العربي/الأفريقي بينما المستهدفان كيانيا هما المشرق والخليج. 2) انفجرت الجولة الأولى في ظل أحادية أميركية واندلعت الثانية وسط منافسة أميركية/روسية. 3) انطلقت الجولة الثانية فيما الجولة الأولى لم تنته بعد عسكريا ولا سياسيا، ما يؤكد وجود تصميم دولي على تعميم الفوضى المتزامنة في كل العالم العربي. 4) لم تؤد تحولات الجولة الأولى إلى إحداث تغيير إيجابي كنشر الديمقراطية وتقرير مصير الشعوب المضطهدة، لا بل انتشر الإرهاب وزاد القمع. ولا شيء يشير إلى أن نتائج الجولة الثانية ستكون أفضل، مع أن أحد أهداف التغيير في السودان هو الحؤول دون تمركز "القاعدة" و"داعش" هناك وفي القرن الأفريقي على جوانب البحر الأحمر. 5) أسفرت أحداث الجولة الأولى عن نزوح الشعوب المشرقية في إطار عملية نقل سكاني (ترانسفير)، بينما شعوب المغرب العربي - أقله حتى الآن - حافظت على وجودها ولم تتعرض للتهجير.

رغم أن واقع الجزائر وليبيا والسودان يستلزم انتفاضة شعوبها، نشعر بلمسة عربية وأميركية، ونلاحظ الكسوف الأوروبي عن المنطقة المغربية. فالأحداث الجديدة تتوالى فيما فرنسا مربكة بـ"البزات الصفراء"، وبريطانيا ضائعة في الخروج من الاتحاد الأوروبي (البريكست)، وإيران محاصرة بالعقوبات الأميركية والدولية، وروسيا ضالعة في سوريا.

معالم الأحداث تجيز تقديم الاستنتاجين الأولين: 1) ما يجري في تلك المنطقة هو أن أميركا تحينت انهماك الآخرين في مشاكلهم فبادرت، مع حلفاء إقليميين، إلى إقامة أحكام صديقة والسيطرة على منطقة واعدة استراتيجيا تحضيرا لما يدعى بـ"صفقة العصر" المشكوك أساسا في تنفيذها. 2) الحد الأدنى لتطور الأحداث في الدول الثلاث هو تعويم الأنظمة القائمة بأسماء جديدة وإصلاحات محدودة. والحد الوسطي هو حصول تسوية بين دور الجيوش الحاكمة ومطالب الشعب، على أساس أن جيوش هذه الدول هي ضامنة وحدتها منذ استقلالها بعيد أواسط القرن الماضي. أما الحد الأقصى فهو أن تواصل الشعوب المغربية انتفاضاتها بغية تغيير حقيقي في بنى الأنظمة وطواقمها السياسية مع ما يرافق هذا الاتجاه من خطر "السورنة". حاليا، تعيش الدول الثلاث في الحد الوسطي، لكن انزلاقها إلى الحد الأقصى أو الرجوع إلى الحد الأدنى يبقيان في حيز الممكن. الأمر يتعلق بإرادة شعوبها، بموقف الجيوش فيها، وبالمخططات الدولية حيالها. هذه العناصر الثلاثة مترابطة لأن لا قدرة لأي عنصر أن يذهب إلى نهاية مشاريعه من دون العنصرين الآخرين.

إذا كان عنوان التحرك في الجزائر هو تجديد دور الجيش من خلال شخصية مدنية جديدة، فعناوينه في السودان وليبيا هي: إيجاد محاور قوي ذي صدقية، إبعاد "الإخوان المسلمين" عن السلطة، والإتيان بحكم عسكري/مدني قريب من مصر ودول الخليج أكثر من قربه إلى قطر وتركيا. إن دول الخليج، وأميركا تاليا، تحمل مشروعا أمنيا واستثماريا وإنمائيا إلى السودان ودول منطقة البحر الأحمر عموما يرتكز على إقامة قواعد عسكرية ومكافحة التطرف والإرهاب من جهة، وتوظيف رؤوس أموال في البنى التحتية لهذه المجتمعات الفقيرة باقتصاداتها والغنية بمواردها من جهة أخرى (سنة 2018 عينت السعودية وزير دولة للشؤون الأفريقية والبحر الأحمر).

تجاه هذه التطورات الكبيرة، لا نظنن - نحن اللبنانيين - أن منطقة المغرب بعيدة منا. كل ما يجري على ضفاف بحري الأبيض المتوسط والأحمر والخليج العربي مترابط. تحت شعار "النأي بالنفس" تمكنا، ولو بثمن سياسي واقتصادي وديمغرافي باهظ، من اجتياز الجولة الأولى من أحداث العالم العربي وحافظنا على نأي نسبي واستقرار مقبول على حساب السيادة والاستقلال. أما مع بدء الجولة الثانية، فالوحدة السياسية اللبنانية ضرورية أكثر من أي وقت مضى لأن المرحلة المقبلة هي مرحلة تظهير التسويات المريبة. ولبنان، غالبا ما كان يدفع ثمن تسويات المنطقة لا ثمن حروبها فقط.