ماذا نعرف عن أناس لا نعرفهم
نزعتنا إلى إساءة فهم الآخرين تكمن عندما نعتقد أننا يمكن أن نرى بسهولة دواخل قلوب الآخرين بناء على أدنى التفاصيل.
بدت لي فكرة التعامل مع الغرباء مقلوبة، مع كل الكلام المستمر بشأن نزعتنا إلى إساءة فهم الآخرين. إنها مسألة ملحة بشكل متزايد بالنسبة إلى عصرنا الموسوم بالانقسام والأخبار المزيفة. الغرباء جزء حقيقي من ذلك، بعد ازدياد عددهم في الغرب أكثر من الشرق، وهنا تكمن مشكلة إساءة فهم الآخرين، لكن من هم الآخرون؟
بسّط الأمر صديق عندما احتدم الجدل بشأن تطرف الجالية المسلمة في بريطانيا بكل ما يتعلق بالشريعة والتقاليد الدينية والملبس، بأن سائقه المسيحي الغاني لا يفرّط مع أفراد أسرته في موعد الذهاب إلى الكنيسة وممارسة طقوسهم بشكل دائم ومعلن! وهي طقوس لا تشبه بأي حال من الأحوال ما يحصل في الكنائس البريطانية، فهل سوء الفهم المتعلق بالغرباء يشمل هؤلاء المسيحيين الأفارقة الغرباء؟ الإجابة تأتيك بـ”لا” حاسمة.
جيليان تيت الكاتبة البريطانية في صحيفة فايننشيال تايمز، تفسر تلك الـ”لا” الحاسمة بقولها “إذا كنا نريد التحدث مع الغرباء، فعلينا أن نعلم أطفالنا وأنفسنا محاولة النظر إلى العالم من خلال عيون الغرباء، حتى لو كان علينا أن ندرك أننا لن ننجح حقا في ذلك”.
ذلك ما يتناوله الكاتب مالكولم غلادويل في دراسته المثيرة للاهتمام “التحدث إلى الغرباء: ماذا نعرف عن أناس لا نعرفهم” وهو يحلل نزعتنا إلى إساءة فهم الآخرين، عندما نعتقد أننا يمكن أن نرى بسهولة دواخل قلوب الآخرين بناء على أدنى التفاصيل، فعندما يطلق غلادويل سؤالا متمثلا في كيف يجب أن نفسر الإشارات التي نتلقاها من الآخرين؟ يقول هذا أمر مهم عندما يتعلق الأمر بالكشف عن احتيال. كوننا نميل إلى الافتراض -بشكل خاطئ تماما- أن حدسنا سيخبرنا من يمكننا الوثوق به، ولاسيما إذا التقينا بشخص ما وجها لوجه.
وفي كل ذلك لا يقدم هذا الكاتب حلولا سهلة، بل يعترف بأن سوء التفاهم موجود في كل مكان لدرجة أنه “لا يوجد جزء سعيد ومبهج” وهذه إشارة لا تدعو إلى الخيبة بقدر ما تدفع إلى إعادة فهم أنفسنا قبل فهم الآخرين.
إذا كنا نتحدث اليوم عن غربة داخلية تعيشها الشعوب العربية داخل أوطانها إلى حد رفع العراقيون شعار “ابحث عن وطن” في احتجاجاتهم الدامية ضد الفساد الحكومي، فإن فكرة سوء الفهم المتعلقة بالمهاجرين تبدأ بهم عندما يترددون في فهم طبيعة المجتمعات القادمين إليها، واختيار العزلة الأثينية حلا سهلا. فمقاهي العرب في لندن وباريس ومشيغان، لا تقدم حلا مقبولا لسوء الفهم المتصاعد والمستمر، بقدر ما تقدمه حانة الحي التي يجتمع فيها الجيران على الأغلب للتعارف أكثر من تعاطي الشراب.