متتالية الأيام المشتبهة في شعر محمد يوسف

المجموعة الشعرية 'تغريبة الفرفور بيعة للضوء والماء' للشاعر المصري محمد يوسف تفيض بمشاعر المعاناة من الغربة والحزن والأسى والوحدة، وتزخر في نفس الوقت بتشكيلات لغوية رومانسية وواقعية.

تغريبة الفرفور "بيعة للضوء والماء" مجموعة شعرية للشاعر الراحل محمد يوسف الذي يعدُّ واحدًا من جيل شعراء الستينيات في مصر الذين تفجرت رؤيتهم الشعرية على هزيمة يونيو/حزيران 1967، وقد احتوت مجموعته الشعرية على اثنتي عشرة قصيدة بالإضافة إلى إهدائين واستهلال درامي.
يقول في الإهداء الأول:
أوقفني في العتمة
وقال لي:
- ادخل.
فلم أدخل.
أوقفني بين الضوء الماء وقال لي:
- ادخل
فدخلت
بايعت الضوء والماء
فامتدت حدودُ مملكتي 
من الأرض والسماء.
والذي يلح على محمد يوسف في هذه المجموعة الشعرية، والذي نلمحه من خلال قصائده هو المعاناة من الغربة عن بلده مصر، غربته تلك التي فجرت ينابيع الحزن والأسى والوحدة التي يكابد منها، فلم يجد بدا من أن يغني غربته ويغني بؤسه ووحدته، علّ هذا الغناء يخفف من حدة المأزق الذي اختاره لنفسه أو فرضته عليه ظروف المعيشة الصعبة أو ظروف الغربة عن وطنه الذي ترك فيه أباه وأمه وأسرته وأحبابه وأصدقاءه.
يا شجر التوت
أبكيك في سكرة الوقت
كان أبي
ملكا ممسكا جذعك المتصلب 
والأرض بين يديه 
وكان غناء الحقول
أريجا يخفِّف عنه اكتئاب الفصول
وحين أرى وجهي المتشقق في الحائط الخشبي
أحدق في الوقت
والزيت
أبكي .. أبي.
والقارئ المتتبع لإنتاج محمد يوسف الشعري سيكتشف أنه يرتاح في غنائه إلى موسيقي بحري المتدارك والخبب، وليس أدل على ذلك من هذه القصائد التي نحن بصددها في مجموعته الشعرية "تغريبة الفرفور" حيث جاءت كلها من هذه الموسيقى، فست قصائد من فاعلن فعلن (المتدارك) وست قصائد من فعلن فعلن (الخبب).
أما قصيدة "ثرثرة من طرف واحد" فتبدأ بخروج الشاعر عن هذا التشكيل الموسيقي الذي اختاره لقصائده حيث جاءت بدايتها من تفعيلة المتقارب (فعولن فعولن):
وحيدا 
أحدق في الشجر المتسربل بالرمل
(أو في الصحيفة)
حتى يباغتني النادل المتمترس خلف ابتسامته
والكراسي مصفوفة
والذوائب ملفوفة
قهوة مرة الطعم
- لا بأس
- حدق معي في الجدار الرمادي
- لا بأس.
ومن هنا فإننا نستطيع أن نقول إن محمد يوسف في مجموعته تلك استطاع أن يعزف على وترين متجاورين في آلة واحدة، هي آلة المتدارك، باستثناء قصيدة "الثرثرة".
وعودة إلى المضمون الشعري الذي حملته لنا المجموعة الشعرية، وعودة إلى عالم الغربة والوحدة والحزن والأسى، لنجد أن شاعرنا استطاع أن يعبر عن عالمه هذا عن طريق تشكيل لغوي رومانسي وواقعي معًا. 
من هذا التشكيل اللغوي الواقعي أو المعاصر نستطيع أن ننتقي:
-العواصم واقفة
وأنا حالة النفي
- في اليوم السادس
أسند ظهري للحائط
أغلق عيني حتى يوقظني الرمل الساقط
من زاوية الحزن المخروطي
- ها أنني أتصعلك في زمن النقط 
والنفط مصيدة الكرنفال
مع الفجر يهلكني الوجع العربي
وقسط المكيف
والشجن الدائري على عشبة الروح
- خبز ونفط
فكيف أفر من النفط؟
تحت شريط المسجل
تغسل أمي قميصي.
وتأتي قصيدة "متتالية الأيام المشتبهة" (ص 15) لتجسد لنا العالم الداخلي عند شاعرنا، ولتجسد لنا إحساسه المتواتر وشعوره الحاد بهذه الغربة وهذا الحزن والأسي، لذا فإن هذا كله يقوده إلى التساؤل الذي يطرح عليه ضرورة الاختيار:
النفط أم الماء؟
وأعتقد أن هذه القصيدة – رغم قصرها وهذا القصر هو سر حرارتها وسر تفردها في رأيي – فإنها جاءت ترجمة حقيقية لشعور المصريين المغتربين أو المهاجرين أو المسافرين لبلاد النفط العربية، من أجل البحث عن فرصة عمل يستطيعون عن طريقها تحقيق زيادة في دخلهم لتحقيق أحلامهم المعيشية بعد عودتهم إلى تراب وطنهم.
ولكن السؤال الذي يؤرق شاعرنا دائما، ويوجهه همسا ودوما إلى نفسه هو: 
ما جدوى الركض على الإسفلت، 
وما جدوى أن تغرق زهرة عمري
في الأيام السوداء؟
ونحن من خلال قراءتنا للقصيدة سنلاحظ أن الشاعر قد قسّم أيامه المتتالية المشتبهة إلى سبعة أيام (بعدد أيام الأسبوع) ولكن ليس شرطًا أن يكون اليوم يومًا (24 ساعة)، فقد يكون اليوم في القصيدة، سنة أو أكثر أو أقل.
في اليوم الأول:
يدخل ظلي في الإسفلت. 
إنه الآن في بداية هجرته، أو غربته، وقد استطاع أن يندمج أو يتأقلم مع العالم المهاجر أو المسافر إليه، إلا أنه في اليوم التالي يبدأ شعوره بالغربة في الظهور، ومن ثم ينمو شعور الحزن لديه، غير أنه يحاول أن يتناساه:
في اليوم الثاني:
أضغط ظلي  في زاوية الحزن المخروطي.
وفي اليوم الثالث يوهم نفسه بأنه يستطيع أن يتناسى حزنه عن طريق الثرثرة والاندماج في أحاديث الناس الفارغة الجوفاء:
في اليوم الثالث
أقطع حزني بالثرثرة الجوفاء
لكنه في اليوم الرابع، وقد استطاع أن يحقق شيئا مما كان يصبو إليه في غربته، نراه يقول:
أبصر ظلي يخرج من إسفلت الشارع
كي يقتحم السوبر ماركت.
أما في اليوم الخامس فإنه يواجه نفسه – أو تواجهه نفسه – بالحقيقة التي ظل أو حاول أن يتهرب منها في أيامه – أو أعوامه – السابقة:
في اليوم الخامس
أسأل نفسي
ما جدوى الركص على الإسفلت
وما جدوى أن تغرق زهرة عمري
في الأيام السوداء؟
لذا نراه في اليوم السادس يحاول أن يرتاح قليلا من هذا الركض حتى يستطيع أن يفكر من جديد في الأمر:
في اليوم السادس
أسند رأسي للحائط
أغلق عيني حتى يوقظني الرمل الساقط
من زاوية الحزن المخروطي.
غير أنه في يومه الأخير لا يزال يعيش في حالة التساؤل، هل يختار بلاد النفط ويختار الغربة، أم يختار العودة إلى ماء النيل، وإلى بلدته "المنصورة" التي تقع في حضن النيل:
في اليوم السابع
تركض في رأسي الأسئلة الخضراء
- النفط أم الماء؟
إنه يتطلع إلى من ينقذه من حيرته وتردده في هذا القرار المصيري:
- من ينقذني من ذلِّ الإسفلت 
- ومن يمنحني في المدن المخروطية كالحزن
بهاء السمت؟
وتنتهي القصيدة عند هذا التساؤل الذي لم يضع – أو لم يكن – حلا لأزمات الشاعر النفسية التي تدرجنا معها في أيامه السابقة.

هل يختار بلاد النفط، أم يختار العودة إلى ماء النيل؟
هل يختار بلاد النفط، أم يختار العودة إلى ماء النيل؟

وإذا كانت قصيدة "متتالية الأيام المشتبهة" قد جاءت على هذا النحو، فإننا نستطيع أن نقول إن هذه القصيدة ومثيلاتها بالديوان مثل: ثرثرة من طرف واحد، أو الملك، أو انشقاق المسافات، قد جاءت جميعها صورة حية عاكسة لنفسية الإنسان المغترب الذي يحمل وطنه داخله أينما اتجه لذا يطفح هذا الحزن ويطفح هذا الأسى من خلال هذه القصائد التي كان لها لون مميز وطعم خاص، يختلف عن بقية قصائد المجموعة، بل يختلف عن كل ما كتبه الشعراء الآخرون الذين يعيشون داخل أوطانهم أو خارجها، ولكن لم يكن شعور الغربة لديهم حادا أو قاطعا كما رأيناه عند محمد يوسف.
وفي هذا المجال تسهل المقارنة بين شعر الشعراء المهجريين الذين هجروا أوطانهم وذويهم من أجل البحث عن فرص حياة أفضل (أبوماضي، وجبران، والمعلوف ونعيمة .. الخ ) وبين شعر محمد يوسف خاصة في هذه القصائد التي ذكرناها آنفا.