محمد السيد عيد يحلل مسرح عبدالرحمن الشرقاوي 

محمد الحمامصي
الشرقاوي أعاد صياغة الأحداث التاريخية في "الفتى مهران" ومزج بينها وبين التراث الشعبي والتراث الديني، معتمدا على تراث الفتوة في استلهام أحداثه وشخصياته.
عيد يوضح العلاقة بين نصوص الشرقاوي والتراث وكيفية توظيف التراث في هذه الأعمال
اتخاذ التراث ركيزة يقيم عليها الشرقاوي بناءه المسرحي
استلهام التراث باعتباره جوا عاما تدور فيه الأحداث

يحلل الكاتب والناقد محمد السيد عيد في كتابه "التراث في مسرح عبدالرحمن الشرقاوي" مسرحيات "الفتي مهران"، و"ثأر الله"، و"النسر الأحمر"، و"عرابي زعيم الفلاحين"، والتي قدمها الشرقاوي للحياة الثقافية ما بين 1966 و1981 والتزم فيها اتخاذ التراث ركيزة يقيم عليها بناءه المسرحي، ومن ثم بيان العلاقة بين نصوص الشرقاوي والتراث وكيفية توظيف التراث في هذه الأعمال. 
وقد اتبع عيد في تحليله منهجين متكاملين الأول هو المنهج الاجتماعي الذي يربط بين العمل وبين الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية المحيطة به، لاعتقاده بأن أعمال الشرقاوي ذات صلة وطيدة بالظروف التي كتبت فيها. أما المنهج الثاني فهو المنهج الجمالي الذي ينظر إلى العمل كتشكيل فني لرؤية يحاول الكاتب التعبير عنها.
وقد لاحظ عيد خلال بحثه عن العلاقة بين المسرح والتراث بوجه عام أن هذه العلاقة تتخذ شكلا من الأشكال التالية: أولا: التعبير عن التراث بمعنى أن يسيطر التراث على الكاتب فتضيع رؤيته الخاصة، ويصبح كل همه أن يروي لنا ما حدث كما جاء في كتب التراث، وهذا النوع هو أضعف أنواع الكتابة المسرحية القائمة على ركائز تراثية. 

الشرقاوي في أربع من مسرحياته الست "مأساة جميلة" و"وطني عكا" و"الفتي مهران" و"ثأر الله" و"النسر الأحمر" و"عرابي زعيم الفلاحين"، اعتمد على التراث الإسلامي بوجه عام، والتراث المصري الإسلامي بوجه خاص، سواء في استلهام أحداثه، أو بناء شخصياته، أو لغته

ثانيا: التعبير بالتراث باعتباره مضمونا من خلال شكل مسرحي تقليدي، وفي هذه الحالة نجد الكاتب صاحب الرؤية، وهذه تسيطر على الوقائع التاريخية وبقية العناصر التراثية، وتجعلها أداة للتعبير عن قيمة فلسفية، وهذا الشكل هو أكثر الأشكال اجتذابا للكتاب المهتمين بالتراث.
ثالثا: التعبير بالتراث باعتباره مضمونا من خلال شكل مسرحي تجريبي، وفي هذه الحالة نجد الشعراء يطمحون للوصول إلى آفاق جديدة، فيجعلون التراث مادة للتجريب للتعبير عن رؤيتهم الفنية، ومن أهم الشعراء الذين داروا في فلك هذا النوع من الكتابة شاعرنا الراحل صلاح عبدالصبور في "مسافر ليلا" وغيرها.
رابعا: استلهام التراث شكلا ومضمونا في وقت واحد، بمعنى ألا يصبح التراث مجرد مادة، بل يصبح تشكيلا جماليا أيضا، والحقيقة أن الأعمال التي تحاول تحقيق هذا ليست كثيرة في مسرحنا الشعري والنثري بوجه عام. وتقتصر الأعمال التي تدور في إطار هذا الشكل حتى الآن على محاولات لاستلهام الزار وأعمال المحبظين، وربما كان نجيب سرور أكثر كتاب المسرح الشعري المصري اجتهادا في الاقتراب من هذا الشكل. 
خامسا: استلهام التراث باعتباره جوا عاما تدور فيه الأحداث بصرف النظر عن عدم الالتزام بوقائع تاريخية محددة أو شخصيات تاريخية بعينها.
وحاول عيد أن يحدد المكان الذي تحتله مسرحيات الشرقاوي على خارطة المسرح الشعري في ضوء هذه الأشكال الخمسة، وقد بدأ بمسرحية "الفتي مهران" حيث رأى أن الشرقاوي أعاد صياغة الأحداث التاريخية ومزج بينها وبين التراث الشعبي والتراث الديني، معتمدا على تراث الفتوة في استلهام أحداثه وشخصياته. 
وأضاف "الحدث هنا لا يتعلق بالفتوة أو بالتراث التاريخي بقدر ما يتعلق برغبة المؤلف في توجيه رسالة محددة للسلطان في عصره (جمال عبدالناصر) وأهم عناصر الرسالة: أولا تنبيه السلطان إلى أن ساحة القتال الحقيقية هي فلسطين المحتلة وليست أي مكان آخر (خاصة أن مصر في هذا الوقت كانت تخوض حرب اليمن) يقول الشرقاوي / مهران في رسالته:

"قل له: أيها السلطان، ما الحرب سوى ساحات دم 
ليس في هذه الساحات مغلوب وغالب
ليس فيها منتصر أو مهزوم
كل شيء يتساوى بعدما تنتهي الحرب بخير أو بشر
الضحايا والخرائب والندم
قل له لا تضع السكين في أيد أُعدت للفئوس".
ثانيا: تنبيه السلطان لما يقوم به رجاله من إرهاب للناس:
"قل له: إن عمالك قد طاردوا الصدق من القلب 
فما عاد لسان ينطق بسوى الكذب
فما عاد جنان بعد يهجس بسوى الزيف
وهذا كله حصاد الخوف.. وهذا الخوف منك".
ثالثا: تنبيه السلطان إلى أن من حوله عزلوه عن شعبه، وأن عليه أن يعود للشعب قبل أن يضيع: 
"قل له: يا أيها السلطان، اترك عزلتك
اختلط بالشعب يصبح قلعتك".
وقد كانت هذه الرسائل في حينها 1966 بالغة الأهمية، كما أنها تدل على شجاعة الشرقاوي في وقت كان الكلام فيه يحسب على صاحبه.
وأشار عيد إلى أن الشرقاوي لم يحاول الدخول إلى عوالم التجريب، ولم يحاول الاعتماد على شخصيات ووقائع تاريخية محددة بل اكتفى بأن يقدم مسرحية تعتمد على التراث باعتباره جوا عاما تدور فيه الأحداث وتتحرك الشخصيات.
ورأى في تحليله لـ "ثأر الله" أن ثنائية "ثأر الله" تعد أنضج ما كتب الشرقاوي في عالم المسرح، كما أنها واحدة من أفضل المسرحيات الشعرية العربية على الإطلاق، والسبب في ذلك أن الشرقاوي أجاد اختيار المادة التراثية التي عبر من خلالها عن رؤيته الفنية، وبذل أقصى جهده في معالجة هذه المادة لتصبح بناء فنيا شامخا. 

قل له لا تضع السكين في أيد أُعدت للفئوس
اختلط بالشعب يصبح قلعتك

اعتمد في أحداث مسرحيته على التراث إلى أقصى حد، حتى أنه ألزم نفسه بالتفاصيل الدقيقة والقصص الفرعية، لكنه رغم هذا قام بعدة عمليات أساسية منها: حذف معظم الأحداث السابقة على وفاة معاوية والاكتفاء بالاشارة الضمنية للمهم منها حتى يتسنى له تركيز الصراع بين الحسين ويزيد بن معاوية ـ حذف الأحداث المتداخلة مع قصة الحسين في كتب التراث ـ حذف عشرات الحكايات التي نسجها الخيال الشعبي عن الحسين منذ ولادته إلى ما بعد وفاته.. وغيرها.
وقال عيد إن الشرقاوي كما استفاد بالتراث في الأحداث فقد استفاد به في الشخصيات، فقد اجتهد في تقديم الحسين كبطل تراجيدي طبقا للقواعد الآرسطية، وقد نجح نجاحا تاما في هذا وقد أنضج شخصية في مسرحه على الاطلاق. وضع يده خلال قراءته العميقة لتاريخ الحسين على نقطة الضعف الحقيقية التي قادته نحو السقوط التراجيدي، ألا وهي المثالية المفرطة، وقد جسد الشرقاوي هذه المثالية في عدة مواقف: سقى أعداءه الذين جاءوا لقتله ولم يتركهم ليموتوا عطشا ولم يدخر الماء لنفسه وأهله ـ قبل مبايعة الرجال الذين اشترطوا عليه أن يكونوا معه إذا غلب فقط ـ سمح للرجال بتركه قبل المعركة بل حرضهم على ذلك ـ وزع طعامه على آلاف من أهل الكوفة وهو مقبل على حرب ـ رفض أن يبدأ عدوه بقتال. ونتيجة لهذا كان لا بد له أن يستشهد. ورغم أن التراث هو الذي قدم للشرقاوي المادة الغنية لبناء بطله التراجيدي لكن يحسب له قدرته على توظيف المادة التراثية.
وحول مسرحية "النسر الأحمر" قال عيد "هناك علاقة جدلية بين أعمال الشرقاوي المسرحية وبين الواقع المحيط به وقت الكتابة، فبعد حرب أكتوبر 1973 أصبح السادات بطلا قوميا ومحاربا عظيما استطاع بالدم والكفاح أن يحرر أرضا سليبة. ووقف عدد كبير من الشعراء والكتاب على مشارف الحلم يطلون على المستقبل. ولم يستنكف الكثيرون أن يسجلوا إعجابهم بالسادات، وكان من بين هؤلاء الكتاب عبدالرحمن الشرقاوي الذي كتب مسرحية "النسر الأحمر" معلنا تأييده للبطل المحارب، لا في حربه ضد العدو الخارجي فقط، بل في حربه ضد مراكز القوى التي كانت تعترض طريقه إلى الحرب والنصر أيضا. 
وإذا كان الشرقاوي قد حدد موقفه من عبدالناصر في "الفتي مهران" من خلال التراث المملوكي، في مرحلة انهيار الدولة المملوكية، فقد حدد موقفه من السادات من التراث الأيوبي، حين تقدم صلاح الدين الأيوبي فاتحا مستعيدا أرض العرب والمسلمين.
أما "عرابي زعيم الفلاحين" وهي آخر مسرحيات الشرقاوي والتي كتبها عام 1981 ونشرها في جريدة الأهرام وكان مقررا أن تعرض في ساحة قصر عابدين أمام الرئيس السادات في الذكري المئوية للثورة العرابية لولا أنه توفى في أكتوبر/تشرين الأول 1981. وقد رأى عيد أن المسرحية رغم أنها آخر مسرحيات الشرقاوي إلا أنها ليست أنضج ما كتب للمسرح، وقال: "بل هي في رأيي أضعف ما كتب، لأن التاريخ سيطر عليها أكثر من أي شيء آخر، وكان دور الشرقاوي التعبير عن التاريخ وليس التعبير بالتاريخ. وفي رأيي أن التاريخ يأتي في المسرح وسيلة في يد الكاتب يعبر من خلالها عن رؤيته وليس هدفا. أما الهدف فهو إبراز قيمة فلسفية أو معنى تاريخي. وهذه القيمة وهذا المعنى في مسرحيتنا كانا باهتين للغاية تحت وطأة سيطرة التاريخ على النص".       
وخلص عيد في دراسته إلى عدة نتائج مهمة أولها إن الشرقاوي في أربع من مسرحياته الست "مأساة جميلة" و"وطني عكا" و"الفتي مهران" و"ثأر الله" و"النسر الأحمر" و"عرابي زعيم الفلاحين"، اعتمد على التراث الإسلامي بوجه عام، والتراث المصري الإسلامي بوجه خاص، سواء في استلهام أحداثه، أو بناء شخصياته، أو لغته. 
وثانيها: أن الشرقاوي ـ فيما عدا مسرحية عرابي ـ يجعل التراث أداة يعبر بها عن رؤيته الفنية الناضجة، ولذا فإنه قد يحذف منه أو يضيف إليه، أو يعدل بعض أجزائه بما يتناسب مع ما يريد أن يطرحه في كل عمل فني وقد نجح في تحقيق هدفه في الحسين والنسر الأحمر، لكنه كان مضادا للتاريخ في الفتى مهران والنسر الأحمر، واكتفى بأن يجعل منه إطارا عاما لمسرحيته. 
وثالثها: أن الشرقاوي يستقي موضوعاته من المناطق الساخنة في التاريخ، وهذا يعطي مسرحه مسحة خطابية واضحة، وثمة علاقة جدلية بين الموضوعات التي يختارها وبين الواقع المحيط.
ورابعها: أن الشرقاوي يطمح في أعماله الأربعة إلى تقديم شخصيات تراجيدية، وتأتي معظم هذه الشخصيات ناضجة لولا أن بعض الهفوات تحول دون اكتمال النضج. 
وأخيرا: أن الشرقاوي لديه القدرة على تقديم شخصيات شريرة معارضة للبطل لا تقل نضجا عن البطل بل لعل بعضها يفوق شخصيات الأبطال. وأظن أن شخصية بجير في الفتى مهران وابن زياد في ثأر الله وعليش في النسر الأحمر، شخصيات لا يمكن أن تُنسى.