صراع وحرب وبحث عن الهوية في' دومينو بلون اللحم'

محمد الحمامصي
أحداث رواية عملاق الأدب اللاتفي زيجمونت سكوشنز تجري بين قرنين من الزمان انطلاقا من القرن الثامن عشر حيث تفقد البارونة ڨايتروت زوجها في الحرب، لكن المذهل أن عرافا يقول لها أن زوجها لم يمت ومازال حيا فتنطلق بحثا عنه لتبدأ سلسلة من الأحداث المثيرة والمفاجآت.

يعد الروائي زيجمونت سكوشنز أحد عمالقة الأدب اللاتفي خلال القرن العشرين، ترجمت كتبه للعديد من اللغات كالإنكليزية والفرنسية والألمانية والروسية والتشيكية وغيرها. ولد في ريجا عام 1926، وهو عضو فخري بالأكاديمية اللاتفية للعلوم منذ عام 1998، وقد حصل على العديد من الجوائز أبرزها جائزة الدولة للآداب بلاتفيا عام 2003.

وهذه الرواية "دومينو بلون اللحم" التي ترجمها للعربية أمين منظور وصدرت أخيرا عن دار صفصافة، تعكس الأبعاد الاجتماعية والمعرفية التي تتركها الحرب على العلاقات الإنسانية بين أفراد العائلة خاصة والمجتمع عامة على اختلاف أجياله وطبقاته.

تجري أحداث الرواية بين قرنين من الزمان انطلاقا من القرن الثامن عشر حيث تفقد البارونة ڨايتروت زوجها في الحرب، لكن المذهل أن عرافًا يقول لها أن زوجها لم يمت ومازال حيًا، فتنطلق بحثاً عنه لتبدأ سلسلة من الأحداث المثيرة والمفاجآت غير المتوقعة. وفي قصة موازية، يعيش الحفيد مع جده في بدايات القرن العشرين، ويكتشف الحفيد أن له أخًا لا يعرف عنه شيئًا، وتعيش العائلة وتعاني من انعكاسات الصراع الدولي والحربين العالميتين على بلادهم وحياتهم، أجواء صعود هتلر وما خلفه هذا الصعود بين المجتمعات المختلفة في أوربا، التغييرات التي ضربت أوربا في الأربعينات مع صعود الاتحاد السوفيتي أيضًا، لكننا نكتشف في النهاية أن الحكايتين المتوازيتين هما في الحقيقة متقاطعتين.

يقول المترجم أمين منظور أن الرواية تشكل رحلة ممتعة احتوت من التاريخ مثل ما احتوت من أدب وإبداع ومزجت بينهما في حبكة سلسة مشوقة نرى من خلالها حياة مجتمع مجهول تمامًا للقاريء العربي هو مجتمع لاتفيا في أواسط القرن العشرين.

ويكشف منظور جانبا مهما تحمله الرواية حيث يرى أنها مُحاكاة للأسطورة المصرية عن إيزيس وأوزوريس. لكنها محاكاة عبثية بعض الشيء، يُحاول من خلالها سكوشنز تفكيك مفهوم الهوية الشخصية بشكل عام، والهوية القومية بشكل خاص. إن السؤال المهيمن على الرواية هو: ما الذي يجعل من الإنسان "فلانًا" من الأشخاص وليس "علانًا"؟ وما يجعله مواطنًا لبلد دون آخر؟ أو منتميًأ لعرق أو نخبة دون غيرها؟ والإجابة المتضمنة عبر أحداث الرواية هي أن تلك التمييزات ليست أكثر من أبنية متخيلة يَنسجها خيال المرء كمحاولة لترتيب العالم واستيعاب موقعه فيه.فعند نقطة معينة، ستشعر بالضياع وسط شبكة الأنساب المعقدة والمرصوصة كأحجار الدومينو، بالإضافة لمتوالية الصُدف والأحداث التي تتحكم بترتيب ومواقع هذه الأحجار "التي تمثل البشر" من العالم، فتقلبها رأسًا على عقب، فتنقلب معها هوياتها.

ويؤكد منظور أن سكوشنز نجح في بناء هذا العالم كثيف الأحداث والروابط، والممتد عبر قرنين من الزمان تدور خلالهما أحداث الرواية.هذا التعقيد هو ما يُبرز تفاهة مسألة الانتماء والهوية بشكل عام، لاحِظ أن سكوشنز كتب "دومينو" عند نهاية القرن العشرينفي ظل "انتشار نظرية صراع الحضارات" وفي وقت تصاعدت فيه الصراعات على الهوية من رواندا حتى يوغوسلافيا، وهي صراعات على تصورات سائلة يَتوهّم الناس صلابتها.

ويرى إن سكوشنز نفسه لم يَنج من تلك السيولة، إذ أن موقعه التاريخي والاجتماعي بصفته مواطنًا لاتفيًا عاش معظم حياته تحت الحُكم الستاليني، جعله مترددًا بين نزعتين: الأولى كونية، يمكن وصفها كذلك بأنها نزعة "هايدجرية" لشخص مُنشغِل بسؤال الكينونة ويُقدّم سطوة الطبيعة وانتمائه اللحظي لها على كل شيء.أمّا الثانية فنزعة قومية "يمينية بعض الشيء" أوقدها في نفسه الإرهاب الستاليني والمركزية الروسية التي حَكمَت سياسة الكرملين تجاه جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق.بالمحصلة، تجعلك الرواية تتساءل: مَن أكون؟ ومن يكون "الآخر"؟ وما الأسباب الحقيقية التي قد تجعلني أكره/ أحب هذا الآخر؟".

مقتطف من الرواية

لم أعرف يومًا أبي أو أمي. أتذكر حين كنت صغيرًا، أن المسألةَ طُرِحت على مائدة عشاء يحضرها ضيوف؛ فأجاب جدي أن أوزما رحلت بعيدًا بصحبة سِيرك مُتنقل مَا، وأنها اختفت كالحصاة في قاع البئر. ومنذ ذلك الحين، صارت جدران بئرنا الرطبة والمُظلمة ترعبني، خشية أن أرى جثة امرأة غارقة. وتحوّلت مسألة والديّ إلى مُعضلة مُجددًا، عندما كَلّفتنا مُعلمة المدرسة الابتدائية ببحث عنوانه “أسرتي”. فضحك جدي ساخرًا: اكتب أن أمك أميرة سِيامية ، وأن أباك هو شارلي شابلن. وقد كَتبتُ شيئًا قريبًا من ذلك بالفعل. وحينما أعادت المعلمة كُراساتنا، مَازَحتني بأنني سأصير كاتبًا ذات يوم، إرنست هوفمان القادم. لكن غريمي، فابيان نجل القنصل إيجل، قضى الفسحة بطولها وهو يُشكِّك في أن يكون لأطفال هذا الجنس من الأمهاتِ؛ آباء. وأن جَدي، ليس أكثر من حُوذي فقير يكسب لقمة عيشه من نقل الموتى.

خُضت مع جدي حديثًا مُطولًا في تلك الليلة، وقد انقسم جوابه إلى شقين مثلما تنشق أطراف الراية المرفرفة أو اللافتة.

لم يحدث أبدًا أن أتى طفل للعالم دون أب، أما المسألة المتعلقة بمَن والده أفضل من الآخر، سواء والدي أو والد فابيان، فإنه يُمكن تسويتها فقط، بحصاد البذور التي زرعها كل منهما.

"يأتي الأطفال من البذور إذًا؟".

"وكيف لا؟ بالطبع من البذور".

"وأين تنبت تلك البذور؟".

"في أخاديد الحياة أيها الأبله، وهل من مكان آخر؟". حدّق جدي بي مُندهشًا.

"أخاديد الحياة؟، لا بدَّ أنك تمزح"، انفعل جدي: "لدينا سبعة أفراس، وثلاثة فُحول في الحظيرة، ولم يخطر ببالك أين تنبت بذرة الحياة؟".

ارتبطت الأساليب الغريبة والعتيقة لجدي، بالدقة الصارمة، كما ارتبط خياله الجامح بالمعرفة عميقة الجذور. من الممكن ألا تَدل أساليبه عن كونه عتيق الطراز بالفعل، وإنما عن ازدرائه للامتثال. لأنه لم يرغب في فعل شيء بالطريقة السهلة. أيضًا، لقد احتاج العالم حسب رأيه إلى الترفيه، وإلى المزيد من المسرح.

عندما كان المُغني موريس شيفالييه يؤدي عروضه في باريس، كان يتسكع في الأرجاء بقبعة من القش مُسطحة الحواف، الشيء الذي لم يعد أحد يفعله اليوم. وحين كان جدي يعمل على العربات، كان يرتدي إما برنيطة إنجليزية لونها رمادي فاتح، أو إحدى قبعاته الطويلة العديدة. وفي الطقس البارد، كان يخرج لجمع الحطب ملفوفًا في عباءته الباليرينية التي تغطي كتفيه. ويَطلي المقاعد في الباحة مرتديًا قفازات بيضاء. هكذا، بدت رغبته في ارتداء القبعات مدفوعة ببعض الخيلاء البشرية: كان جَدي وسيمًا، ولكن شعره كان ينحسر، وهي حقيقة حاول إخفاءها سواء وَعَى بذلك أم لا.

لقد تعلّمت الكثير عن أفضل الأشياء التي يُمكن مُقارنة شخصية جدي بها، ربما آلة تسجيل النقود المُستقرة بفخر فوق مكتب البارونة. دون شك فإن آلات النقود الحديثة أكثر عملية، لكن هذه الآلة القديمة كانت عملًا فنيًّا مرموقًا بحق. إذ كانت مصنوعةً من معدنٍ فضي، ومنقوشة بسلسلة من الزهور. وعندما تَسحب المقبض، وتضغط الأزرار، يندفع درجها الخشبي الأحمر مصحوبًا بدَقة جرس.

في الصباح التالي، قال جدي إنه سيوصلني للمدرسة في طريقه إذا أردت. كانت العربة الصغيرة مُلغِزة بشكل لا يُصدَّق، تُشبِه في بعض جوانبها الأفراس السوداء التي كانت تجرّها. أما الآن، ولكوني أكبر سنًّا وأكثر حكمة كما يُفترَض، فإنني قادر على أن أستوعب بصورة أفضل، ما عُدّ آنذاك ببساطة أفكارًا غامضة. إن الأشياء التي نعتبرها جميلة، ليست في غالب الأحيان سوى علامة على الانسجام. أو براعة الإتقان – ولْيَكن جسدَ امرأة، أو قاربًا أشرعته مُفرودة بالكامل، غزالة تَعدو، أو سيارة فارهة. أشياء تلمسنا كدفء الأفران، أو كنسمة هواء.

لقد كان الإحساس الذي انتابني عندما لمست باب العربة المتلألئة، مُثيرًا بِقَدر معانقة حبيب بعد غياب سنوات. حيث تَنهّد الكرسي الأحمر البارد المصنوع من جلد الماعز بهدوء تحتي، وجلست بين نافذتين كريستاليتين، مثل مَلك يتربع على عرشه. بينما أشرقت شمس مايو الزاهية، وصَنعَ صفٌّ من أشجار الكرز المتفتحة حول سور العزبة الحجري موجة بيضاء يُمكنك التزلج فوقها.

خرج جدي من الباب الجانبي الصغير. مُرتديًا معطفًا جديدًا لونه أزرق فاتح، مُعبرًا عن خصوصية المناسبة. وفوق رأسه، بالطبع، قبعة حريرية طويلة.

انحرفت العربة في قوس صغير نحو باب المدرسة قبل خمس دقائق فقط على بدء الصف. فكانت نافذة أحد الفصول مفتوحة، حيث جلس أَلفيس صديق فابيان متأهبًا مثل قطة سمينة، مُصوِّبًا ضوء الشمس نحو أعين الفتيات العابرات باستخدام مرآة جيب. ليتوارى عن النافذة بمجرد أن رأى العربة، وتقفز على الفور عدة رؤوس أخرى وتَحل محله، مثلما يقفز العصفور من الساعة.

في تلك الليلة، تحدثت مع جَدي مُجددًا.

"هل تعرف ماذا قال فابيان؟ لقد تراجع عن وصفك بأنك فقير. لكنه تمسك بأن رائحتك تشبه الإسطبل، وأنا كذلك".

"ها-ها-ها، أخبره بأن رائحة الإسطبل ليست أسوأ ما قد يحصل للمرء. فالحماقة، رغم ذلك، أَنتَن. وأن الدخول إلى قاعات قصر باكينجهام أسهل من الدخول إلى إسطبلاته. واسأله لو كان على علم بأن إرنست بيرون دوق كورلاند، والوَصيّ على عرش الإمبراطورة الروسية آنا إيفانوفا، هو حفيد رئيس إسطبلات عزبة كالنزيمس. واسأله أيضًا: من الدوق، ومن هو رئيس الإسطبل؟ وما كل تلك الفوارق المُؤقتة والمُبتذلة مقارنةً بتاريخ البشرية. ففي خلال مئة أو مئتي عام من الآن "وهي مجرد نَفس واحد في عمر الأبدية" سيختلف معيار التقييم. فما هو الدُوق مُقارنةً بداروين، أو كانط، أو هارفي؟ وكما في ملحمة توراندوت، سينحاز التاريخ لمن يقدرون على فك أحجيته".

أَنصتُ لجدي في صمت، دون قبول أو رفض. لكنه قرأ ملامحي، فبدا أنه فهم عدم استعدادي لخوض هذ النوع من النقاشات الآن، لذا، فتح دُرج الطاولة، وأخرج رزمة من أوراق اللعب.

 “هل ترى” قالها وهو يفرد الأوراق على الطاولة. “على كل جيل أن يتعلم اللعبة من الصفر، لكن يُوجَد كذلك المنحة الوراثية. حيث بإمكان لاعب ماهر أن يلد أطفالًا، يرثون نسخة مُطوّرة من مهاراته. هل تظن بأن أفراسنا الجميلات سَقطنَ من السماء؟ إنها وراثة! لا يهم أين أنا، سواء في الكنيسة أو السوق؛ سوف يظل بإمكاني كشف الغبي من على بعد عشر خطوات. إن الغباء، والجهل، والعنف يطفحون على ملامح البشر. قد تخدعك الكلمات، أما الأيدي فلا".

امتلك جدي ما دعاه بـ "شركة تأجير العربات". ولذلك، فإن تعليق فابيان اللاذع بشأن نقل الموتى، لم يأتِ من فراغ، لأننا امتلكنا بالفعل نُعوشًا، كانت ترقد في الضوء الخافت في سقيفة العربات، بين المركبات الكبيرة، والعربات الكوبيه ذات الكُرسيين، وعربات اللانداو المكشوفة، والفايتون التي أجّرها الزبائن في حفلات الزفاف والتعميد والتناول. مثلما امتلكنا منصات للنعوش؛ بيضاء وسوداء، والتي يُمكن ربطها بأربعة أو حتى ستة أحصنة. لكنها لم تكن أكثر من مُجرد عربات دفن، لم تختلف عن تلك المستعملة أيام موزارت، وروبسبيير، وكازانوفا.