محمد بوبوش يلقي الضوء على 'القومية البوتينية وحلف شمال الاطلسي'

أستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي يوضح في كتابه التصوّرات الدولية للنظام العالمي الجديد؛ نتيجةً للحرب الروسية الاكرانية وما يكتنف العالم من تغيُّرات محتملة، ولا سيّما في الشرق الأوسط، ويناقش بصورة أساسية ما إذا كانت تلك الأحداث المستمرة تأكيدًا لولادة نظام غربي بعد الحرب.

على الرغم من أن الحرب الدائرة رحاها الآن بين الفلسطينيين وإسرائيل في غزة والضفة الغربية، والتي تستحوذ على جل اهتمام العالم الغربي، إلا أن هذا العالم نفسه يقف على أطراف أصابعه وهو يشاهد آلة الحرب الروسية تجتاح أوكرانيا، والتي يتوقع أن يكون لها آثار عميقة على النظام الدولي كله، لما ستخلفه من آثاره ونتائج على كل دولة من دول العالم. هذا هو ما نبدو متيقنين منه، لكن ماذا يعنى ذلك على وجه التحديد، وكيف سيبدو العالم في نهاية هذه الأزمة، وما هو شكل هذه النهاية ومتى ستأتي، وما هو حجم الخسائر والتضحيات التي سيتحملها العالم لاجتياز هذه الأزمة.

الكثير من الأسئلة والقليل من الإجابات، حقائق جديدة وتغيُّرات كبرى سيشهدها العالم على خلفية الوضع في أوكرانيا، وعليه؛ يلقي هذا الكتاب الصادر أخيرا عن دار العربي "الأزمة الروسية الأوكرانية.. القومية البوتينية وحلف شمال الاطلسي" لأستاذ العلاقات الدولية والقانون الدولي بجامعة محمد الأول بوجدة - المغرب د.محمد بوبوش، الضوءَ على التصوّرات الدولية للنظام العالمي الجديد؛ نتيجةً لهذه الأزمة وما يكتنف العالم من تغيُّرات محتملة، ولا سيّما في الشرق الأوسط، وتناقش الدراسة بصورة أساسية ما إذا كانت الحرب على أوكرانيا تأكيدًا لولادة نظام غربي بعد الحرب.

يرى بوبوش أن الفكرة السائدة في الدوائر الإستراتيجية الغربية قبل الحرب على أوكرانيا في عام 2022 وانسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان في أغسطس 2021 كانت تتمثل في الدفاع عن مفهوم "النظام الدولي القائم". ووفقًا لهذا الرأي، فقد استند النظام الدولي إلى فكرة وجود "قوة مهيمنة محبة للخير"، أي الولايات المتحدة الأميركية.لكن ترى موسكو الصراع مع أوكرانيا من زاوية مختلفة، فهو من منظورها صراع بين روسيا والغرب، ولا سيّما أن العالم يشهد ولادة نظام دولي جديد، في ظل المحور الروسي - الصيني الصاعد في مواجهة الغرب المتراجع. ولن يكون هذا التراجع لفترة قصيرة؛ لأنّ القارة الأوروبية ستبقى في حالة حرب ومقسَّمة، ما دام يشهد العالم مرحلة حرجة تتصاعد فيها التوترات بصورة متسارعة على ضوء تطورات الحرب الأوكرانية. ففي 24 فبراير/شباط 2022 أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين"

 بتدخل من قبل القوات المسلحة الروسية في أوكرانيا، التي قامت بهجوم كاسح وعنيف من كافة الجهات، والذي ما زال مستمرا حتى كتابة هذه السطور. على ضوء ذلك تسارعت مراكز البحوث والدراسات السياسية في العالم لتفسير هذه الحرب التي تشكل أكبر أزمة دولية منذ نهاية الحرب الباردة في بداية التسعينيات، وحول المسارات والسيناريوهات التي يمكن أن تؤول إليها، وباتت تطرح تحديا جادا وحقيقيا للنظام الدولي أحادي القطبية التي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية.

ويشير إلى أنه في ضوء هذه الأزمة وانعكاساتها الدولية والإقليمية والتحولات الإستراتيجية في بنية وهيكل النظام الدولي، وعودة الحديث مرة أخرى عن الحروب التقليدية في العلاقات الدولية وعودة ما يمكن أن نطلق عليه مراجعة دولية لتوزيع القوة في النظام الدولي وإعادة النظر في ترتيبات ما بعد الحرب الباردة، والتحولات والأحداث السياسية وتراكم تداعيتها وتقليص إمكانيات حلها، تشكل هذه التحديات علي المستوي النظري مآزق عدة، تتنافس النظريات الكبرى من أجل حلها ووضع تفسير لدوافع أطراف هذه الحرب، لاسيما أنه وبرغم التقدم الروسي في الأيام الأولي من الغزو تبدو الحرب متكافئة من حيث حجم الخسائر، بالنظر إلى الدعم الغربي والحصار الاقتصادي والسياسي الذي تواجهه روسيا من الدول الغربية التي ترفض السلوك الروسي في شرق أوروبا وتصف فلاديمير بوتين بأنه "مجرم حرب" في ازدواجية واضحة للمعايير الحقوقية والديمقراطية في الغرب. ت المواجهة العسكرية مستمرة في أوكرانيا.

ويوضح بوبوش أن تعدد أهمية أوكرانيا بالنسبة إلى روسيا الاتحادية جيوسياسيا واقتصاديا ولوجستيا، فهي المنطقة الضعيفة "البطن" في جسد دائرة النفوذ الروسي، كما وهفها المفكر الاستراتيجي الروسي ألكسندر دوغين "إذ يعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وظهور مؤشرات عديدة لميول أوكرانيا نحو الغرب، قد جعلها تتحول إلى ما يشبه مركزا أمنيا بالنسبة للغرب في منطقة متقدمة داخل القطب الشرقي، أو بتعبير آخر أصبحت تقترب من أن تقترب دور حصان طروادة للغرب في دائرة النفوذ الروسية، وهو ما جعل دوغين يؤكد ضرورة الحيلولة دون حدوث حل، كما يتبين من وثائق الأمن القومي الاستراتيجي الروسي من العام 2000. وفي خطاب اعلان روسيا الحرب على أوكرانيا أمام مجلس الدوما في 24 فبراير 2022، حدد بوتين غايته من عملياته العسكرية الخاصة بأنها تهدف الى:1- السعي الى اجتثاث النازية. 2- نزع السالح من اوكرانيا. 3- السيطرة على (اقليم دونباس). 4- تعزيز استقلالية جمهوريتي لوهانسك ودونيتسك – التي اعترفت روسيا باستقلالهما في فبراير 2022. 5- اضعاف القيادة السياسية الأوكرانية وتحويل اوكرانيا الى دولة محايدة. 6- عدم انضمامها الى حلف شمال الأطلسي.

ويرى انه يمكن اختصار أهم المطالب الروسية من أوكرانيا: هي أن تلغي أي اتفاقيات للتعاون مع حلف الناتو، وكذلك إيقاف أي مظهر من مظاهر استعدادها لأن تصبح عضوًا بحلف الناتو في المستقبل. أما مطالب روسيا من الغرب: فهي تطالب بضمانات قانونية مكتوبة تقدمها الولايات المتحدة بأن أوكرانيا لن تنضم أبدًا إلى حلف الناتو، إضافة إلى سحب الحلف العسكري الغربي لأسلحته الهجومية من دول شرق أوروبا كبولندا والمجر(دول كانت أعضاء في حلف وارسو سابقًا، على اعتبار أن وجود تلك الأسلحة يمثل تهديدًا لروسيا لا يمكنها قبوله. وينطلق موقف بوتن من اتفاقية بن الاتحاد السوفيتي وحلف الناتو في العام 1989 إبان المفاوضات بينها على إعادة توحيد المانيا وتفكيك دول الاتحاد السوفيتي، وفي تلك الاتفاقية تعهد الغرب بعدم ضم أي دولة من دول الاتحاد السوفيتي في شرق أوروبا إلى حلف الناتو، وهو ما لم يحدث بالطبع؛ إذ ضم الحزب دولًا كثرة من أوروبا الشرقية، والآن يعمل على انضمام أوكرانيا. جاءت نهاية العام 2021 وبداية العام 2022 كاشفة وبشدة عن تزايد الخطر الروسي على أمن القارة الأوروبية ومظلة الناتو الدفاعية على ضفتي الأطلسي، حيث يظل حلم روسيا باستعادة مناطق النفوذ التي خسرتها عند تفكك الاتحاد السوفيتي في نهاية الحرب الباردة من أبرز العوامل المحدِّدة للسلوك الروسي في منطقة شرق أوروبا، وهو ما يتضح حاليًا في تفاقم أزمة أوكرانيا في ظل تحذير الولايات المتحدة وأوروبا من أن روسيا تستعد لغزو أوكرانيا.

ويلفت بوبوش إلى أن الخطاب الروسي في تعامله مع أوكرانيا، لم يعتمد على مبررات الواقعية السياسية فحسب، التي ترى أن دفاع الدولة عن أمنها القومي ومصالحها مبرر كاف لتفاعلاتها الدولية وقراراتها الخارجية بما في ذلك قراراتها العسكرية، بل أنه كان أقرب لمقومات الخطاب البنائي الذي يهتم بالأبعاد غير المادية لفهم التفاعلات الدولية، فقد تعمد تضمين الأبعاد الثقافية والتاريخية في خطابه، وأولى لها اهتماما خاصا وبالتوازي مع العمليات العسكرية والحروب الاقتصادية، ظهرت أبعاد أخرى من النزاع ذات صبغة ثقافية وتاريخية وهي الأدوات التي توظفها روسيا في هذا النطاق الجغرافي الحيوي. وفي نطاق هذا السياق يعتبر الموقع الجغرافي من أهم العوامل الطبيعية التي تؤثر في تحديد قوة وسياسة الدولة الجيوبوليتيكية، وعلى الرغم من أن الموقع الجغرافي لأي منطقة على سطح الأرض ثابت لا يتغير إلا أن أهميته السياسية والإستراتيجية في تغير مستمر، لا سيما أن الواقع الإقليمي اثبت عن وجود سياسات وسلوكيات تنتهجها أوكرانيا لأحداث تحولا في طبيعة علاقات التفاعلات الإقليمية وما يصاحبها من خيارات أو بدائل لتحقيق الأهداف الإستراتيجية للقوة المتنافسة تتولى وظيفة إعادة تأهيل مجالات التأثير السياسي في نطاقات النفوذ الروسي، وتمثلت بصياغة نمطية ترويجيه في التركيز على الانفتاح والتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وتفعيل نشاطها الأرضي داخل دوائر الفضاءات الحيوية لروسيا.

ويكشف أن بوتين تبنى مفهوما جديدا للقومية الروسية التي اعتمد عليها في تأسيس ركائز حكمه على مدى عقدين من الزمن، ويمكن أن نطلق عليها "القومية البوتينية" التي تعبر عن وجهة نظره ومفهومه للقومية الروسية الجديدة التي تعتمد على الانتماء الإثني والثقافي والمجال الجغرافي ومعاداة الغرب في أفكاره وقيمه. إن عقيدة "العالم الروسي" على الرغم من أنها تبدو جديدة في مظهرها كترسيخ للقوى الناعمة الروسية دوليًا، إلا أنها في الواقع قديمة في جوهرها؛ حيث تستهدف تبرير مخططات موسكو للتدخل في أي بلد - خاصة دول الاتحاد السوفيتي السابقة- لحماية مصالحها وما تراه تهديدًا لأمنها القومي، تحت مزاعم حماية الناطقين باللغة الروسية خارج البلاد، وقد تم بالفعل استخدام “المُثل العليا للعالم الروسي” لتبرير غزو روسيا لأوكرانيا؛ حيث زعم “بوتين” قبل الغزو أن كييف تنفذ “إبادة جماعية” ضد الناطقين بالروسية في منطقتي دونيتسك ولوهانسك، وهذه هي نفس المزاعم التي يرددها كبار المسؤولين في موسكو حاليا حول “ترانسنيستريا” في شرقي مولدوفا.

ويرى أن العقيدة الجديدة تدعم الجهود الروسية الساعية إلى تقويض الوحدة الأوروبية، حيث يعزز مفهوم "العالم الروسي" الدعوات الانفصالية في مناطق الاضطرابات والأزمات في شرق أوروبا، الأمر الذي يمكن أن يتسبب في مضاعفة البؤر الجيوسياسية القابلة للاشتعال داخل أوروبا؛ في الجانب الآخر، تسببت الإخفاقات التي مُنيت بها عدد من حكومات الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلى تنامي تيارت شعبوية ويمينية موالية لروسيا داخل القارة الأوروبية، والتي من المتوقع أن تواصل موسكو تقديم الدعم لها تحت مظلة العقيدة الجديدة، بهدف إثارة الاضطرابات العرقية وخلق حالة من عدم الاستقرار داخل أوروبا.