محمد رشيد الشمسي يترنم بالموت والحياة في 'معلم السعادة'

المجموعة القصصية تشكل راحة من تعب اليومي لشدة غرابتها تزيح الكوابيس عن كاهل القارئ لشدة غرابة الواقع والمه وكأنك تقرأ قصص من التراث تشعرك بالارتياح من شقاء الانغماس في هموم اليومي.

"أن الحروب صارت في استشراء على كوكب الأرض وباتت تغلب على معظمها الأسباب والدوافع العرقية والدينية. فأينما وليت وجهك رأيت النظام في تراجع والعنف يكتسح بشتى أشكاله المناطق الواقعة في ضواحي المدن. وبات قانون الانتقام بديلا عن قانون العدالة، بزعم أنه العدالة الحقة. وغدت التصورات المانوية تستحوذ على الأذهان؛ وتصوَّر وكأنها هي العقلانية". إدغار موران، هذا مدخل أساسي لقراءة قصص "معلم السعادة" للكاتب محمد رشيد الشمسي.

ويعي الكاتب تماماً أنه يكتب قصص وفق جماليات حداثوية، لسان حالها يقول: بعد ان اختلفت رؤيتنا إلى العالم والذي لم يُعد مطابقاً لأحلامنا، ولا حتى موازياً لها، أصبح عالما فاضحاً لأنسان هذا العصر، ومتمرداً عليه، بل ساخراً منه.

الإهداء...

"الى السمكة التي تحدث سمك القرش في إحدى قصص المجموعة.

حياتنا ليست كما نتوهم، محبوكة، وصاعدة نحو مصير محتوم، فتلك خدعة من خدع العقل. ليست سوى حكاية مفككة، وشذرات غامضة، من الألم والكآبة والجنون... مشاهد تعيش في مخيلتنا وان السعادة عالم متخيل لا يسمح لها الواقع الضاغط عليها بأن تتجسد.

يلمس الكاتب محمد رشيد الشمسي في قصصه المخاوف الإنسانية والمصير المؤلم اتجاه الحياة وهو إذ يصطحب القارئ وسط كل هذا الالم والسخرية منه لينجو من خلال قراءة تلك القصص لتمنحه شعوراً بالنجاة.

اقتباس:

وصية رجل اعمى

"ابنتي الوحيدة وصيتي :ادفنيني قرب نهر ولاتضعي علامة دالة على القبر ,اكتبي لافتة على باب دارنا مكتوب فيها :الدار للبيع ولكن لاتبيعيه ابدا...ص15

فقد أراد الكاتب أن يكتب قصصا مختلفة مضموناً وأسلوباً، فبدءاً من العنوان – الذي هو مستوحى من تعبير "فلسفة السعادة " دلالة على التعايش والاتصال مع الأشياء المحيطة بامان,لا ساحة صدام ,يتصارع فيها الانسان /الذات / والاخر - القهر والفقر والجهل والدين المغلوط المشوه واهتزاز منظومة القيم والثقافة الضائعة وما يمكن أن يخلفه كل ذلك في نفوس بشر لن يعودوا بشرا..

اقتباس:

قصة الثعلب

"انهزم الجيش الجرار شر هزيمة لأن كل جنوده وضباطه كانت قواهم خائرة وضعيفة ..بسط القائد مثال سيطرته على القصر مع أبنائه العشرة وقرر الجميع طرد الثعلبة اللعوب ولكنها صرخت بهم بقوة وقالت: لولا النكاح المتواصل ,لما استطعتم التغلب عليهم ...ص41

لذا نجد أن الفانتازيا قد طغت على كثير من القصص، وفرض التأمل المعمق في المأساة على الواقع نقد الكاتب اللا متساهل ووصفه القاسي له بالمهرج الساخر، حيث يمتزج فيها السرد بفنية متقنة من يوميات الواقع والسخرية السياسية والاجتماعية، كما نجد أن الكاتب يمارس حريته كيفما يشاء في السرد والشكل واللغة.

أمام كل هذه التفاصيل، تتراوح شدة الصراع ما بين شخوص القصص أنفسهم وذويهم، والذين يكتبون مصيرهم بأنفسهم، ولذا أكثر ما يميز هذه القصص أنها خيال داخل خيال, لعل القارئ يتخلص من كوابيسه، بعدما توغل كثيرا في كهوف غرائبيه لا نهاية لها,ومن خلال أنسنة الحيوانات والأشياء معا مثل :

"الفقمة /أسد عجوز/انثى الكلب انثى الديك/اسرار كلب مجهول/كيف تصيد غزال/مجرد ذبابة /سمكة طائرة /نعل الخيل /امبراطورية الأنف الكبير/ثور حسان/بئر متجمد/عمر سيجارة /شبوط عجوز/قصر الثعلب ..

اقتباس:

صورة أسد عجوز

"ثمة غزالة فلت من اسد عجوز .كان يتربص بها .بين حافات الشجر وبعض اعواد القصب المحيط بالبركة. شم عطر فريسته على بعد اكثر من مئتين متر .لم تكن تعلم ان الخطر يداهمها لذلك مدت رقبتها ووضعت فمها في البركة .وارتشفت غرفة ماء...ص141

هذا الحضور للشخصيات في قصصه، هنا يدمج التجربة الذات "السيرة" في تجارب الاخرين، وقد يمثل تكريماً ما لتلك الأسماء، أو جلبهم كشهود على بؤس تجربته الحياتية وتوريطهم فيها مثلما هو متورط، أو تعرية وفضح لخبراته القرائية. مطالعة معظم هذه الأسماء تحيلنا مباشرة إلى الولع بما بعد الحداثي، كقاسم مشترك بينها.

يحضر هؤلاء بنصوصهم الخاصة وأقوالهم، وأجسادهم أحياناً حينما يتورطون في مشاهد موازية أو متداخلة مع المشاهد الواقعية.

اقتباس:

هروب ضياء

"الضياء الذي امتطى معالم المدينة منذ أول النهار لم يكمل ضياءه ,كان ينتظر الناس ان تكمله ,ولكن كما يبدو لم يتقدم احدهم باي خطوة تدعو لكمال الضياء ,لذلك مال الضياء جانبا ,وأخذ يجر باذياله التي تغطي سائر البلاد ...ص96

وهنا أراد الكاتب لمجموعته القصصية أن تكون قصصا تؤرخ للحرب ,حرب ليس بالمفهوم التقليدي وإنما حرب الذات /الذات ,الذات/الاخر، وأن تسجل في الذاكرة ما لا يجب نسيانه أبداً حتى وإن انتهى يوماً، هكذا يظل يحرضنا الكاتب على أن نتذكر مأساة هذا الصراع من حيث القتل والنهب والجوع والتخلف والأوبئة القاتلة وظلم الخائن والمستعمر والهروب والفرار نحو المجهول والعيش بالقهر وألم الذكرى ووجع الحنين حتى الموت، الالتفات لمأساة متعمدة لسحق الانسان لقدراته وحياته وسحق كرامته.

إن هذا الهروب نحو العزلة/الموت /الفقد، إثر الشعور بما يشبه الاختناق من غرابة الواقع،إن مما يحسب لهذه القصص أنها لم تذهب في نمذجتها لعالم الواقع المباشر بل إلى نفي كل ما هو منطقي من تلك المظاهر الغرائبية، وهو ما يتضح بجلاء في ثلاث فصول اتسمت بعنونة "بالحروب /قبل حدوث الحرب "أي حرب لااعرفها" وبعد حدوث الحرب "أي حرب لااعرفها – قبل وبعد حدوث الحرب "أي حرب لااعرفها".

" المشهد الاستهلالي الذي يفتتح به تلك الفصول ,بالرغم من ان تلك القصص ظلت متمسكة بملامح وجودها بعيدا عن الحرب لكنها ظلت معبرة عن قلقها إزاء متغيرات فكرية ضاغطة، وخشيتها من طمس هويتها . لكن هذا النزوع قد انزلق من منطقة السرد ليطفو في شكل خطاب مباشر، يعبر عن أصالة ملامحها من خلال التناص مع نصوص سردية اخرى، على نحو جاهز قصدي.

اقتباس:

قبر ماركيز

"كانت لي رغبة عارمة بزيارة فبر ماركيز وقد حانت لي الفرصة بمعرفة .اين يقع القبر .وفي أي مقاطعة من دولة كولومبيا .تلك الدولة التي تقع في قارة أمريكا الجنوبية ,كبلدي الأصلي الأرجنتين...ص111

في مجمل القصص ثمة تفاصيل جزئية من يوميات شخصيات مهمشة تتماهى أو تتطابق مع الواقع الذي رسمه الكاتب، والذي يتصدر الحكي ويشير إليه ,بحرفية العارف بصنعته من رسم دقيق لتلك الشخصيات،هذا ما يؤسس للعقد السردي بين الكاتب وبين قارئه، هو تأكيد بأن عالم المخيال الذي يشيده، نتاج خالص لمخيلة صانع ماهر.

اقول ًليس مهماً أن تقرأ حكاية كي تستخلص حكمة، قد لا تكون صادقة أو تعجز أنت نفسك عن العيش وفقاً لها، ولا أن تعجب بذكاء وتماسك الحبكة، ولا أن تستمتع بحكاية مسلية يغبطك الآخرون عندما تعيد حكيها لهم,المهم ان تصلك رسائل موجعة لعالم يحيط بك ,.هي تعيش معك كل لحظة وربما لا يحس بتاثيرها عليك .

اقتباس

امنية مهبول

"كان ينصت فقط الى الكلمات التي تطلقها الألسن ,تلك الألسن التي طالما نبزئه بأقبح الألقاب والأسماء ,وما كان عليه إلا ان ينصت لها .ويسكت ولايبوح بما يجول في خاطره .الا الى اقرب الناس له .وهي أمه التي اتعبها تجواله بين الأزقة والشوارع الضيقة...ص121.

الشعور الحقيقي بالورطة هذا مايطلبه الكاتب ان كان، واقعاً وتخييلاً، هذا ما يساعدك على استبصار ذاتك والوعي برحابة وتعقيدات وجودك، وإمكانية تحررك من كل ما يثقلك، من حكم وأوهام وصيغ سلطوية.

وختاما، "معلم السعادة " راحة من تعب اليومي لشدة غرابتها كي تزيح كوابيس عن كاهل القارئ لشدة غرابة الواقع والمه، وكأنك تقرأ قصص من التراث - ألف ليلة وليلة، ذلك الارتياح من شقاء الانغماس في هموم اليومي، إنها قصص حالمة من سرد عجائبي وغرائبي ذات طابع إبداعي خاص يميزها عن غيرها، ربما لأنها مليئة بعوالم متعة الفرجة لكن فيها قساوة الألم.

وأن مفهوم السعادة الذي يشغل الكاتب لايمكن تحققه ربما في هذه العوالم الغرائبية فحسب، وأنه لم ينس في أي لحظة من اللحظات ان قصصه هدفها هو في ارتياد مجاهل جديدة في هذا العالم.