محمد رفيق خليل نبراس الإسكندرية

الحاني على مرضاه، الميسر لهم الأمور، غير الراغب في أي أجر أو مقابل مادي، المقدّم للدواء والمعطي لكل مريض حقَّه مِن الرعاية والاهتمام.
فلسفة الرحيل واقتفاء أثر اللقاء ثانية بأصحاب النقاء والبهاء 
الجواد معادل للإنطلاق نحو الأفق فوق تخوم العالم المحدود إلى اللامحدود

عَرَفتْ الإسكندرية د.محمد رفيق خليل عالما نابغاً في المجال الطبي والمجال الثقافي. ويؤكد ذلك مشاركاته العلمية والأدبية داخل مصر وخارجها, بعد أن ذاع صيته كأحد أهم أساتذة الجراحة بكلية طب الإسكندرية في جراحة الرأس والعنق والأورام والغدد الصماء, مما حدا بكثير من الجامعات (فرنسا وإيطاليا وألمانيا واليابان) لدعوته لإلقاء محاضرات فيها, والإستفادة من أبحاثه الجديدة المفيدة في الجراحة والأورام وهندسة الأنسجة.
وقد أطلق عليه في هذا المجال "الطبيب الإنساني"؛ لاتصافه بصفاتٍ حميدة وفيرة تتفق مع طبيعة المهنة, فهو الحاني على مرضاه, الميسر لهم الأمور, غير الراغب في أي أجر أو مقابل مادي, المقدّم للدواء والمعطي لكل مريض حقَّه مِن الرعاية والاهتمام, وهو ما دعا انتخابه لدورتين متتاليتين نقيباً للأطباء في الإسكندرية.
ويتوازى مع مهاراته الطبية قدراته الثقافية الفائقة في مختلف النواحي: الأدبية والفنية والفكرية الفلسفية, مما جعل عدد كبير من الجامعات في مصر وخارجها، يدعونه للإشراف ومناقشة الكثير من الرسائل الجامعية في تخصص التاريخ والحضارة الرومانية واليونانية وفلسفة العلوم وفلسفة الأخلاق، واشتهر عنه سِعَةُ المعرفة, وعمق الثقافة, والدقة في البحث والوصول إلى المعلومة أو البيان, وقدر رفعه ذلك إلى مكانة علمية وثقافية رفيعة, كما كان لسفره إلى بلدان مختلفة وتعرفه على الثقافات المتباينة أثر في شخصيته, و– أيضا – في إبداعه الأدبي الذي نلمسه مضيئاً في تجربته الشعرية, التي جعلته واحداً من أميز شعراء الإسكندرية وأبدعهم.

وِلد محمد رفيق السيد حامد خليل المشهور بـ محمد رفيق خليل في الإسكندرية في السادس والعشرين من نوفمبر في عام 1948 لأسرة ميسورة الحال, حريصة على التمسك بالتعاليم الدينية الإسلامية والمبادىء الإنسانية السمحة, فنشأ في مناخ أخلاقي نبيل, وعلاقات مجتمعية سامية, وتدرج في مراحل التعليم المتلاحقة وصولاً إلى مدرسة المتفوقين "العباسية الثانوية"، ومنها التحق بكلية طب الإسكندرية، وتخرج فيها, ثم أصبح أحد أساتذتها ومن أشهر علمائها.
ويتسم محمد رفيق بالنظام والأمانة في المشاركة والسعْي إلى التفوق والريادة, وقد أهلتهُ تلك السمات لأن يكون: رئيس جمعية الفنانين والكتاب (أتيليه الإسكندرية) منذ عام 2000 وحتى يوم وفاته, خلفاً لرؤسائه السابقين، ومنهم: الفنان محمد ناجي، والفنان سيف وانلي، والدكتور شمس أبوالعزم، والفنانة نعيمة الشيشيني، كما كان سكرتير الجمعية المصرية للثقافة والتنوير, والمستشار الثقافي لـ "هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية" بالإسكندرية، وقد نال عضوية الكثير من الجمعيات الأدبية والعلمية والمشاركة في مجالس إدارتها ومنها: "جمعية الآثار – كونسر فتوار الإسكندرية ..." كما شارك ورأس عدة دورات للندوة الدولية لبينالي الإسكندرية, ولتميزه على المستوى الدولي نال عضوية مجلس إدارة بينالي مبدعي البحر المتوسط وأوروبا "تورينو".
وقد ساعد على التفوق فيما سبق استقراره العائلي, فهو متزوج من سيدة فضّلى أنجب منها أولاده الثلاثة: خالد ومجدي وأحمد, وقد اجتمعوا في استقبال العزاء فيه من المئات مساء الأحد الموافق الرابع عشر من مارس/آذار عام 2021, بعد أن دُفِنَ بمقابر المندرة بالإسكندرية, عقب تعرضه لأزمة صحية ألمت به جراء صدور حكم قضائي في صالح مالك العقار الكائن به أتيليه الإسكندرية, ومضمونه أحقية المالك في إنهاء العلاقة الإيجارية مع الجهة الاعتبارية المستأجرة, ورحل وهْو لم يألُ جهداً وسعْياً لإيجاد مخرج من هذه الفاجعة الصادمة.
وتتجلى مواهب محمد رفيق خليل العلمية والثقافية, وتبرز في إبداعهِ الشعري, الذي توجه بإصداره ديوان شعر الفصحى "سوناتا الرحلة" عن سلسلة الإبداع الشعري المعاصر برئاسة تحرير الشاعر الكبير أحمد سويلم في عام 2013 وبمقدمة ل للشاعر د. فوزي خضر.

ويعكس الديوان سمات فنية وفيرة, أهمها حرص الشاعر على تفجير الموقف الفكري, وهو ما يمثل التأملّ والفلسفة داخل بنية القصيدة الشعرية, وهذا أهم ما يَّميزه كشاعرٍ يُبْحر في التاريخ والأماكن والأحداث, ويعبر فيما يشبه التوثيق الفني بالشعر للمواقف الذاتية والقومية, ولنتأمل قصيدته الذاتية الإنسانية التي تمثل الصراع الدرامي داخل الشاعر وحيرته لأداء مهنته وسعيه لإفراغ ما به من تجربة شعرية وهي بعنوان "رحلة  اللون الأبيض".
"وضع الشاعر معطفه الأبيض فوق المشجبْ
ورنت عيناه إلى الورد الأبيض في الزهريةِ فوق المكتب
وإلى الأوراق البيضاء الرانية إليه في شوق وترقَبْ
كي يُرشفها قبلات القلم الولهان وأن يسكبْ
قطرات من ذوب الوجد المنساب من القَلَب المتعب
أن يحملها كعروسٍ في ثوب أبيض فوق جوادٍ أشهبْ
أن يطلقها كنوارس بيضاء تجوب المشرق والمغرب
ناشدت الأوراق البيضاء الشاعر كي لا يهربْ
وضع الشاعر معطفْه الأبيض فوق المشجبْ
ومضى يكتب"
وهنا كان الفوز للشِعر, وإيثار الشاعر للكلمة المبدعة, وهو ما يؤكد القيمة الفلسفية للحالة وإدراك الوجود.
وفي قصيدته "سِفر النور والنار" يتضامن مع شعب فلسطين في التنديد بالعدو الصهيوني وكشف جرائمه في احتلاله لأرضنا العربية والإعتداء على أهلها, بزعمه أنه الشعب المختار, ويتخذ من "أريحا" المدينة الفلسطينية مكاناً للأحداث، ومن "راحاب الغانية" رمزاً للتضليل والتزييف والزعم الباطل بأن شعب إسرائيل هو شعب الله المختار، وتأمل قوله:
"أحببت الله
وأحببت الكون جميعاً
مِن إنسان أو أشجار أو أطيار أو أزهار
فالكل كيان ممدود لخيوط تنساب
من الحبل الأقوى حبل الله
لذا انكسرت مقولة أن الرب قد اختار 
شعباً من دون الناس جميعاً"
وإلى قوله: 
وخرافة أن الله دعاهم
يوم دخول أريحا
ألا يُزهقوا روحاً حيا
من إنسان أو حيوان أو أشجار
إلا راحاب الغانية
فتبقى بينهمو ترفل في جنات الشعب المختار
وخرافة لعنة من يبني فوق الأطلال المحترقة
وكأن خراب المدينة قربانٌ للمعبود الجبار
مأساة أريحا الأولى تترى في كل مكان للشعب المختار".

وفي قصيدته "وانطلق الجواد" يرثي شاعر الإسكندرية أحمد محمود مبارك – الذي رحل في عام 2019 – والذي اشتهر بقصيدته "ومضة في جبين الجواد". يقول محمد رفيق خليل في رثائه:
"يطوي الروابي والفيافي والبراري
والمروج والبلاد
محلقاً فوق تخوم العالم المحدود
نحو أفقه المنشود
حيث النقاء والبهاء حيث يستطيع سبر أسرار الوجود
تضىء دربه الطويل ومضةُ على جبينه النبيل 
انطلق الجواد 
ولم تكف بعد أوجاع البعاد
عن الصهيل
فصوته الجميل
مازال يشجي السمع 
يثري العقل
ينعش الفؤاد وفيئه الظليل
يحتضن الإصرار في عزائم الرفاق
كي نرفض الركوع للعباد
انطلق الجواد ونحن نقتفي أثاره إلى معاد".
وهنا ئجّسد فلسفة الرحيل واقتفاء أثر اللقاء ثانية بأصحاب النقاء والبهاء متخذاً من الجواد معادلاً للإنطلاق نحو الأفق فوق تخوم العالم المحدود إلى اللامحدود.
ويرحل د.محمد رفيق خليل عن دنيانا بجسده , محلقاً فوق تخوم العالم المحدود إلى رحاب ربِّه الخالد المطمئن, وعزاؤنا أن ترك فينا مبادئه الإنسانية السامية, وإبداعه الشعرى الفلسفي المتميز, وأبحاثه العلمية المتقدِّمه المتجددة, وآثاره الصالحة في كل مكان مرَّ عليه, وحسْبُنا أنه صار نبراساً نهتدي بنور عِلْمه وأدبه وثقافته وهو ما يدعونا لذكره بخير على الدوام. والذكر للإنسان عمر ثان.