مخطوط "الذكاء الاصطناعي" الحائر بين دور النشر.. تساؤلات مطروحة

في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية كانت المخطوطة المؤلفة التي يقدمها الكاتب للنشر، توزن بالذهب، أما الآن المؤلف قد يعاني الأمرين من نشر كتابه والحصول على حقه القانوني.

الاهتمام بالكتاب العلمي المبسط ونشره وتسويقه علامة مميزة لتقدم الأمم والحضارات، وبخاصة في العصر الحالي، حيث الإنجازات والتطورات العلمية والتكنولوجية المذهلة والمتسارعة عالمياً.

وفي الدول المتقدمة، يحتل نشر وتسويق الكتاب العلمي المبسط قائمة أولويات مؤسسات ودور النشر، كما ينال أصحاب هذه الكتب التقدير والرعاية والإهتمام اللائق بهم.

ومن بين المجالات العلمية المهمة عالمياً في الوقت الحالي، مجال الذكاء الاصطناعي، الذي بات حديث الساعة عالمياً وعربياً، وتكاد تكون مؤلفات الثقافة العلمية العربية فيه نادرة للغاية، وهذا ما دفعني مؤخراً لإعداد مخطوط كتاب علمي مبسط لتعريف وتثقيف القارئ العربي بمجال الذكاء الاصطناعي وبالتطورات المذهلة والمتسارعة الجارية فيه.

أرسلت مخطوط الكتاب العلمي المبسط "الذكاء الاصطناعي" الى العديد من دور النشر العربية، ظننت أنه سيتم تلقفه ونشره في أقرب وقت، إلا أن المخطوط لا زال حائراً بين دور النشر، بحجة أن السوق ليست في حاجة لمثل هذا الكتاب، في الوقت الذي تجري فيه على قدم وساق مؤتمرات وندوات وإستثمارات عربية عن الذكاء الاصطناعي، وهناك ضرورة عاجلة أن يصاحبها مؤلفات عربية مبسطة لتعريف وتوعية القارئ العربي بهذا المجال الواعد، على إعتبار أن وعي ومشاركة وثقة عامة الجمهور في الذكاء الاصطناعي وتطوراته وقضاياه وتحدياته جزءاً مهماً وأساسياً في تقبل المجتمع له وتوجيهه الوجهة الصحيحة.

في العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية كانت المخطوطة المؤلفة التي يقدمها الكاتب للنشر، توزن بالذهب، أما الآن المؤلف قد يعاني الأمرين من نشر كتابه والحصول على حقه القانوني الذي يكفل له حياة كريمة مثل أي مهنة أخرى في المجتمع. كذلك عندما يتقدم المؤلف بمخطوطة كتابه لمؤسسة ثقافية أو دار للنشر، قد يواجه صعوبات جمة، منها أن المخطوطة قد تظل حبيسة أدراج المؤسسات الثقافية ودور النشر لفترات طويلة، وقد تواجه بالرفض رغم أهمية وقيمة موضوعها في تنمية ورقي المجتمع، وذلك بحجة أن هذا الموضوع أو المجال لا يتماشى مع خطة أو سوق النشر.

في المجتمعات المتقدمة، دار النشر هي التي تبحث عن الكاتب، كما أن العلاقة بين الناشر والمؤلف تتصف بالثقة والتفاهم، ويعد اختيار ونشر الكتاب العلمي المبسط صناعة متقدمة، فهناك فريق عمل متكامل يتولى الكتاب العلمي منذ بداية فكرته وخطوات تأليفه، ويتعاون مع مؤلف الكتاب في اختيار العنوان والمحتويات والأفكار وشكل وصور الكتاب، حتى يكون ملائماً للنشر ومتطلبات السوق، وبالتالي يشعر المؤلف بالمتعة أثناء المراحل المنظمة لنشر الكتاب والمدونة بالتفصيل في عقد تأليف الكتاب، وقبل طباعة وتوزيع الكتاب وطرحه في الأسواق، تقوم دار النشر بتوزيع نسخ منه على المتخصصين في مراجعات الكتب والكتاب العلميين في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية، وكذلك تسويقه على مواقع التواصل الإجتماعي، وبالتالي يكون الكتاب ومؤلفه قد حظيا على حضور وانتشار واسعين بين الجماهير، ويباع من الكتاب مئات الآلاف من النسخ، كما أن هناك ما يسمى بتذاكر جولة أو رحلة كتاب  (Book Tour)، والتي تشهد مبيعات متسارعة، حيث يتم عقد جولات ولقاءات للترويج للكتاب في عدة مدن، ويتم توقيع خاص من مؤلف الكتاب، وعموماً الكاتب في الغرب يمكن أن يعيش بما يكتب أو يؤلف أو من أرباح كتاب واحد فقط، فهناك ثقافة حقوق الكتاب وحقوق الناشر، وكذلك ثقافة احترام القارئ للكتاب وتقدير المؤلف.

بينما في عالمنا العربي وضع الكتاب العلمي ومؤلفه لا يخفى على أحد، فمؤلف الكتاب العلمي يظل حائراً بين دور ومؤسسات النشر، ويواجه بمراحل مرهقة وتحديات وصعوبات جمة في نشره وتسويقه ومن ضياع لحقوق النشر والتأليف، فعندما يتقدم المؤلف بمخطوطة كتابه للناشر، قد تواجه بالإهمال، وقد لا يجد المؤلف إجابة على رسائله الإلكترونية المتلاحقة ومكالماته الهاتفية، وبعد عدة أشهر غالباً ما تواجه مخطوطة الكتاب بالرفض، بحجة أن السوق ليست في حاجة لمثل هذا الكتاب، وعند نشر الكتاب العلمي يكون نصيبه ضئيلاً من الرواج والتسويق والجوائز العربية، فبند الكتاب العلمي قد يكون غير موجود أصلاً في قائمة مجالات التقدم للجوائز، فأغلب الجوائز العربية جوائز أدبية في الرواية والقصة والمسرح والشعر، وتحتل دائماً النصيب الأكبر من الجوائز التي تصل الى ملايين الدولارات سنوياً.

ولعل من بين التساؤلات المهمة المطروحة هنا والتي تحتاج لإجابات من أصحاب المصلحة: هل لدى مؤسسات الثقافة ودور النشر العربية خطط وإستراتيجيات واضحة لنشر وتسويق الكتب العلمية المبسطة ومكافأة أصحابها بما يستحقون؟ وما هو السبب في ضعف نصيب الكتب العلمية من النشر والتسويق والجوائز في عالمنا العربي؟، ولماذا هذا العزوف من بعض مؤسسات الثقافة ودور النشر عن نشر وتسويق الكتاب العلمي بالشكل اللائق؟ ولماذا لا نتقن فنون تسويق الكتب العلمية؟، ومن هو المسؤول عن نشر ورواج وتسويق الكتب العلمية ومناقشة محتواها على نطاق واسع في المجتمع العربي، ومكافأة أصحابها بما يستحقون؟، وهل لدى مؤسسات الثقافة ودور النشر العربية هيئات إستشارية كما في الدول المتقدمة تتولى الإهتمام بالكتاب العلمي وعنوانه ومحتوياته؟، وكم كتاب لدينا في قضايا وإتجاهات علوم الحاضر والمستقبل التي ستغير وجه العالم وتحدد موقع ومكانة الدول على خريطة العلم والتكنولوجيا، مثل علوم وتكنولوجيا الروبوتات والذكاء الاصطناعي والإندماج ما بين البشر والآلات والنانوتكنولوجي والخلايا الجذعية وهندسة الأنسجة وطب التجديد، وغيرها؟

وكذلك التساؤلات عن لوائح وشروط النشر وقيمة المكافآت والحقوق المستحقة قانونياً للمؤلفين، هل هي متاحة بالفعل على المواقع الإلكترونية لدور النشر والمؤسسات الثقافية في العالم العربي، أم أنها في طي الكتمان والسرية، أم أنها قائمة على الكرم والود المتبادل؟، وهل الحديث في أمر الحقوق المادية للمؤلف من الأمور الصعبة والغامضة ومن المعيب والحرج التحدث فيها؟.

وكذلك السؤال عن حقوق الملكية الفكرية للمؤلف والناشر، من يحمي حقوق المؤلف إذا حدث ورفضت دار النشر أو المؤسسة الثقافية مخطوطة الكتاب، ثم بعد ذلك وجدها المؤلف منشورة في المكتبات باسم مؤلف آخر مع تغييرات بسيطة؟ ومن الذي سيطالب بحقوق نشر مقال أو دراسة أو كتاب وجده صاحبه على المواقع الإلكترونية من دون إذنه وموافقته وكذلك من دون أي مردود مادي؟، ومتى سيكون لدينا كيان قوي يتولى حماية حقوق الملكية الفكرية للمؤلفين؟

في عالمنا العربي، مخطوطة الكتاب العلمي المبسط المقدمة للنشر قد تهمل، وإذا نشرت قد لا يحصل مؤلفها على أي عائد يذكر، وقد تظل حبيسة مخازن مؤسسات الثقافة ودور النشر ورفوف المكتبات، ولا يعلم عنها الجمهور، بسبب سوء التسويق والترويج، رغم أهميتها وقيمتها العلمية والتنموية في المجتمع.

الحديث عن الكتاب العلمي المبسط ونشره وتسويقه ومكافأة مؤلفه بما يستحق، ليس ترفاً بل ضرورة حضارية وتنموية تستحق النقاش المجتمعي، إن أردنا أن يكون لنا قيمة وقامة في مجالات العلوم والتكنولوجيا المتسارعة التي أصبحت تحدد مكانة وقيمة الدول عالمياً.

وأخيراً.. يبقى السؤال: هل يجد مخطوط كتاب "الذكاء الاصطناعي"، من يتبناه ويتولاه بالرعاية والاهتمام والتقدير والنشر؟