مسرحية 'الجدار' .. التمسرح/حرية التمرد الجمالي المعاصر
هنا .. لا أكتب إلى القارئ العام لطفا، بل اكتب مقالتي هذه لأولئك المفجوعين الذين شاهدوا عرض مسرحية "الجدار"، عليه أنصح بمشاهدة هذا العرض / هذا التمرد، ومن ثم عودة لقراءة مقالي هذا ..
لا وصف هنا للعرض وجراحه النازفة، ولا مصطلحات نقدية أو أعلام مشهورة، أستلها من خزيني المعرفي الساكن، مستعرضا ثقافتي النقدية الجامدة المحتكمة لبؤس المناهج والأساليب النقدية الخنوعة والرتيبة.
لقد تمرد عقل المخرج سنان العزاوي على الظلم هنا فأبدع بحرية منتظرة منه، ومن كاتب نص "الجدار" حيدر جمعة الذي قدم لنا "خراءه" الجمالي من فمه / قلمه الذي تمرد فأبدع هو الاخر بحرية، فاقتنص الحكايا من عالمنا المثير والغزير، بحقائق الخزي والعار المقنعة بستائر الدين تارة، وبستائر السياسة القذرة والآسنة تارة أخرى.
وتتلى علينا الأسئلة بوصفنا بشر في عالم المتناقضات العجيب هذا: هل نحن بشر؟ هل نحن أحياء؟ هل نحن أموات؟ هل نحن حيوانات؟ ملائكة؟ شياطين؟ مؤمنين؟ .. هل نحن قوادين؟
نعم، لا ممنوع هناك .. بل هناك عري وكشف وإدانة، لكل ممنوع مرغوب .. هو فساد ظاهر ومستشري في مدن العالم الثالث، بحسب زعم المخرج العزاوي في محاولته التعميم، لكن الإسقاطات الإخراجية لواقع حال زمان ومكان الرؤية الإخراجية - التي هي حالنا وزماننا ومكاننا جميعا- كانت جريئة برمزيتها وإشاراتها وجميع ملفوظاتها الحوارية التي جاءت مستفزة للتلقي هنا والان: (السافل/ المنحط/ القواد/ القذر/ الديوث/ الشاذ جنسيا / المخدرات/ مدمن أفلام إباحية… ) الخ مما يشكل ظواهر مرضية مستوردة دخيلة على عالمنا، أو بحسب قول المخرج "العالم الثالث".
يبدو هنا أيضا .. أن حكايا شهرزاد لم تنته بعد .. لنجد أنفسنا أمام سلسلة حكايات جديدة معاصرة حاضرة بيننا (ممنوعة مرغوبة) من حكايات ألف ليلة وليلة، سطرها لنا جمعة ببوحه الهستيري، وكأنه في مصحة أمراضه العقلية، لكن هي تلك الأمراض الواعية لهلوستها والثائرة- كثورة العرض برمته- على واقع جمعة وواقعنا وواقع حال العالم الثالث ترطيبا لخاطر العزاوي.
هذه الحكايات تمردت هي أيضا على ليالي زمانها ومكانها .. حكايات مجموعة نساء وديوث، فضت الآلة الجهنمية الحاكمة (صاحب المكان) بكاراتهن، كذلك بكارة الديوث..
فالامرأة الأولى: تلك التي يخدعها حبيبها ثم زوجها بتغذية جسدها وتسمينه، غافلة بذلك عن مقصده الدنيء في أن يجعل منها مومسته الخاصة (يستكعدها) ليكون قوادها الفحل الزنيم.. أما المرأة الثانية تلك التي يجبرها زوجها الخوض في تجربة تبادل الزوجات مع صديق له .. والمرأة الثالثة: تلك التي تحلم بالطيران فخدعها أخيها عبر الإدمان والتخدير والاغتصاب فتزوجت في النهاية من أخيها.. والأخرى: حملت من أبيها عدة مرات، إجبارا وإكراها منه وتهديدا، والأخرى: التي خدعها ذلك السياسي القذر وسلب منها إنسانيتها فحولها لراقصة يعتاش عليها، والأخرى: استدرجها ذلك الرسام الحقير إلى مكتبه ليغتصبها فقتلته ومزقت جسده بفرش الرسم فحرق وجهها، والأخرى: التي اتخذت من الدين غطاء بعد فواجع عدة في ال (هنا) و(الان) وكانت دلالة العرض السياسية بامتياز فـ(باسم الدين باكونا الحرامية)، و((أنهم يقتلون الجياد اليس كذلك؟)) نعم فهؤلاء هم الذين قتلوا أبناءنا وهم ينتفضون، ولا قضاء ضدهم، هنا والان .
وللديوث مأساته المائزة حين تعرض للاغتصاب وهو في عمر الرابعة… ياه.. يا لهذه الحكايا التي كأنها وحسب تجسيد العرض لها أداء جسديا وروحيا ونفسيا عبر تحولاتها المنظرية واللونية والموسيقية وأزياء كلا منهم وذلك الانغماس الأدائي المضني حقا .. جاءت كأنها الوصايا الخمس، لا العشر .. لتتربع على تاريخ البشر القهري والاستبداي، ثائرة هنا في "الجدار" أو خلفه أو أمامه، على مظلومية كل حكاية بكل هذا العنف الأدائي القاسي مع موج من التكرارات الجمالية القصدية التأكيدية، بسبب هول الكارثة ومتنها الحكائي.
لنجد أنفسنا أمام مجموعة من الأبواب التي ضمت هذه الحكايا وشخصياتها التي تناغمت غلقا تارة وفتحا تارة أخرى، مستعرضا العرض لنا استثمارا مبتكرا للتقنية الرقمية وهي تولج عمق أسرار كل حكاية منفصلة مرة ومجتمعة مكررة مرة أخرى، بحسب الحاجة الدرامية والصورية لذلك الموقف أو الحدث المراد التركيز عليه فكريا وجماليا.
نعم ونعم .. أكررها مثنى وثلاث نعم .. الدهشة المت بالتلقي واتفقت بالإجماع على سمو الأداء التمثيلي الساحر لأصحاب هذه الحكايات: (الاء نجم / يحيى إبراهيم/ لبوة عرب / رضاب احمد / اسراء رفعت / زمن الربيعي / رهام البياتي / نعمت عبدالحسين / رنا لفته) ولم يقتصر هذا السحر الأدائي نفسه على هؤلاء، بل تلمسناه عند الآخرين وكان الجميع تنافسوا بمشروعية عالية ليتمردوا على جميع الاداءات التقليدية البائسة بحكم الشغل التوجيهي الورشوي الإخراجي ونحته ليظهر لنا اداءات: (دريد عبدالوهاب / فيروز طلال / أيمن الشاهين/ أماني حافظ/ عراق أمين/ عبير الخفاجي/ علي نعيم / أسيل أحمد) ..
ويا للدهشة الصورية الإخراجية التي تلاقحت مع فضاء العرض التي صنعها لنا السينوغراف علي السوداني عبر جميع التحولات الشكلية المبهرة على طول مساحات العرض وصولا إلى تلك اللحظة التي عبرت عنها تلك الأيادي التي ظهرت من على جانبي الجدارين وكذا الحال مع المشهد الأخير وهيمنة رمزية صاحب المكان بهذا العدد من الرجال المقنعين بذات القناع، عبر مشاركة نخبة متميزة من طلبة معهد الفنون الجميلة بغداد، وهم يتوجهون بسلطة الجدار نحونا كالمنتصرين برغم الانتفاضة الجماعية والتمرد الثوري الذي انتفضت به جميع أبطال وبطلات هذه الحكايا الشهرزادية الشاذة في مجتمعاتنا العربية الاسلامية وغير الاسلامية.. لم تكن حكايات مفترضة .. ولم تكن استثناءات تحدث هنا وهناك .. لكن "الجدار" هنا يدق جرس الإنذار عنها، صوب اذاننا السليمة منها وغير السليمة، كي نسمع عنها همسا أو جهرا، ونرى نتائجها علنا أو سرا، عسى ولعل ان يكون هذا الصراخ المسرحي المدوي جمالا وفكرا، عساه يكون حلا ناجعا من أجل الخلاص المنتظر … فالجميع هنا ضحايا .. ولدوا، فصاروا ضحايا، فتعذبوا.. ثم تمردوا فقاموا بالثورة، لكنهم فشلوا.. فانتصر الجلاد (صاحب المكان) ولما يزل منتصرا … فمن أجل أن لا يولدوا ضحايا جدد، ليتعذبوا ويثوروا مرة أخرى ويخسرون في النهاية كل شيء .. جاء هذا العرض "الجدار" ملحمة مسرحية عراقية مشرفة.
إنتاج دائرة السينما والمسرح بغداد 2024