مشاهد قرني جميل البصرية تتوالى وكأنها في إتفاق مع ذاتها

اللوحة لقرني جميل هي حالة، لا كنوع من تفريغ شحنة ما، بل حالة بها يواجه الحياة، هي آداته ولسان حاله كي يقول كلمته، هي حالة تأخذ كل وقته وبها يكتشف ذاته بملامحها الدقيقة تحتويه وتمنحه قدرة على التعبير قد يعجز عنها خارجها، حاله تجعله يتحدى الحدود والقهر، حالة تحترم فيه حقه في هذه الحياة، فيصنع سلالمه إليها حتى يسطع حباً.

تجربة الفنان التشكيلي الكردي قرني جميل (أربيل 1954) غنية جداً كغنى كردستان بجبالها، ولا نجازف إذا قلنا عنها عميقة أيضاً بعمق حب الكورد لتلك الجبال، تجربة قادرة أن تستجيب للغة عصرها وحاجاته، بداياتها مفتوحة على نهاياتها، ونهاياتها مشرعة على بداياتها، جوهرها التمسك باللحظات الهاربة في ظل زمن يمتد من الداخل إلى الخارج، ويوسعه وكأنه يحييه قطرة قطرة، فالحركة عنده مؤرقة، وقائمة وبإندفاع وهي تفضي إلى تحولات جدلية فيها تذوب إستقطاباته، وهو المتزود معرفياً وثقافياً، وبالتالي لا بد من التغاير في الرؤى والرغبات ليكون قادراً على تجسيد كل ذلك بوعي حداثي صاعد، وبأدوات وتقنيات مختلفة، فتتراءى لنا تلك الرموز المفتونة بالتوغل في مدارات جميع مكوناتها البانية وهي تشتغل وتعمل على نحو متزامن، لا لزحزحة مدركاتها عن مقاديرها وتحولاتها، بل لتتعاضد هي وكل مفرداتها لتشكل نصها من ابتناء هذا الزمن ذاته وفق نسق يحتوي على ما يمكن أن يحدث، وما سيظل يحدث، وهذا الذي كان والذي سيكون هو الذي سيتقاطع فيه البداية مع النهاية وتتعاصران بتراكماتهما ولا تتنابذان، ولا يمكن للمتلقي أن يشيح بوجهه حينها، فهو على دراية تامة بدائرة الشروع وفظاظتها وقسوتها إلى حد بعيد، دائرة تنغلق على الخارج وتكتوي بنار الحدث، نعم لا يمكن للمتلقي أن يشيح بوجهه هنا، فهو أمام تهريب القصيدة في العمل الفني، وعمليات الإبلاغ لا يمكن تعطيلها، ولهذا تتوالد الإستعارات الأثيرية واللاقسرية، وتتوالى الصور وكأنها في إتفاق مع ذاتها وإن تلاشت المعاني في الفضاء، فالتعايش داخل فضاءات النص هي أهواء وإستيهامات تحرص على إبهار المتلقي وشده في رحلة بحثه إلى السبيل المؤدي إلى تأسيس حداثته هو، وحريته هو بكل ما احتوتها من اتفاقات، دون أن يكف في إستحضار الجدل المفترض بوصفها فعل حضور وفعل وجود.

إن قرني جميل كفنان تشكيلي وكردي من كردستان العراق ليس أول من يهتم بالطبيعة، ولا آخر من يهتم بها، فالذي يتلحف جبال كردستان ووديانها، سهولها وأنهارها لا يمكن أن يتجاهلها، لا يمكن إلا أن يقع في عشقها، وما على العاشق إلا التغني بعشقه، وكشف النقاب عن جماله، ويرفد أحدهما الآخر بكل أحاسيسه، نعم يهتم جميل بالطبيعة، ويحتفي بها بلغته، ويواجهها بفتح كوة إمكانيات ألوانه الخاصة مستمداً عجينته من حقول له براعته في التجوال فيها، فهو إبن أربيل حين لم تكن إلا بيوتاً متناثرة حول قلعتها، فيعيد بذاكرته إلى حينه، ويبدأ بإلتقاط القوة المحركة لها، كما يبدأ بخلق ألوان قائمة على نغمة الرماد والبني وتدرجاتهما، ويدفع بهما نحو بياضه تحت مساءلة منظور ذاته وعلى ماذا ينطوي، فهو ومن خلال وضع القيم الجمالية في بوتقته وتحت مساءلته لا يمكن إلا أن يمهد طريقه المختلف وغير المألوف والذي سوف تكون خطوته الأكبر ليعلن عن نفسه وعن حضوره، وهذه نقطة في غاية الأهمية، فيفترض الإختلافات، والكثير من المزاعم المعممة، ويبذل قصارى جهده لإثبات أن الخطوة المغايرة هي التي توصلك عما تبحث عنه، بل هي ذاتها التي يوصلك للقمة (بمعناها المجازي)، أعرف أن الإبداع لا حدود ولا قمم ولا نهايات لها، فهو وأقصد قرني جميل يختلف عن مجايليه ومعاصريه بتلك الخاصية الإيجابية التي يتحلى بها، والكامنة في حقيقته وبساطتها، تلك الحقيقة التي تختلف في تعالقاتها عن الحقائق التي يعلنها الآخرون، وتلك البساطة التي تعكس عناصره ولا شيء سواها داخل النسق الذي يشتغل عليه، مهما كانت التوليفات والإحالات التي حوله غارقة في لحظاتها.

قرني جميل لا ينغلق على ذاته، ولا يتركز إهتمامه على الدائرة المغلقة كزمان ومكان، فهو بقدر إنتمائه لكردستان ينتمي إلى الأرض، إلى كل بقاعها، فهي وطنه، وسكانه هم أخوته، لا يقول ذلك من خلال أعماله فحسب، بل يقولها جهاراً " كل دول العالم موطني وقبل كل شيء نحن أخوة في الإنسانية "، هذا إحساس فنان حقيقي، لا يستسلم لحالات عاطفية، إجتماعية عابرة، ويكسر دائرته لتنكشف ما فيها، لتبقى مفتوحة أمام نسائم الآخرين، فهو يرتبط بالإنسان بغض النظر عاى لغته أو لونه أو جنسه كإرتباطه بالحياة ذاتها، بل هي الحياة بكل زخمها، فكل ما يقدمه يقدمه للإنسان، ويغلفه بإنسانية مفرطة وهي متعته وإمتداده وفنه، وهذا يعني أنه يمتلك خصوبة إنسانية بوسع البحار، ويستوعب ذلك، بل ينظر إلى الأشياء من خلال قيمتها الإنسانية، فكيف لا يصعد فنان وهو مضمخ بكل هذا الحب للإنسان، كيف لا يبدع وهو يحمل في داخله هذه الأنهار العذبة القادرة أن تجمل الحياة، الحياة التي تنتهك كل لحظة بفعل كائنات باتت خارج الإنسانية، وقرني يعي تماماً بأن الإبداع هو الجزء الأهم من الدفاع عن الإنسان، عن إنسانية الإنسان.

و لعل من أهم الثمات التي تمتاز بها تجربة قرني جميل هي ثمة الكلب، هذه القمة التي اشتغل عليها أكثر من فنان تشكيلي كردي وعراقي كسيروان باران مثلاً، لكن الأمر عنده مختلف جزئياً، فعنده ينتمي إلى ذلك الفصيل الذي يربيه الصيادون ويسمى السلوقي بالعربي، وتعجي ( taaçi ) بالكردي، وهذا النوع من الكلاب من أكثرها أماناً وإخلاصاً لصاحبه، وتقصد جميل بذلك بكل تأكيد كإشارة إلى وحشية الإنسان وقدرته الكبيرة على الخيانة والخراب، فهي ثمة تظهر مأساة الإنسان والدرك الذي وصل إليه، وبأن الكلاب أكثر وفاء من الإنسان لا يترك صاحبه مهما دارت به الأيام، كل ذلك يحققه جميل بلغة خاصة، وبتعبيرية خاصة، وبألوان خاصة، داكنة، نابعة من معاناته الخاصة.

اللوحة لقرني جميل هي حالة، لا كنوع من تفريغ شحنة ما، بل حالة بها يواجه الحياة، هي آداته ولسان حاله كي يقول كلمته التي ستبقى خالدة طالما الأعمال أرواح تنبض لا على جدران متاحفنا فحسب، بل على جدران قلوبنا، وفي أرواحنا، هي حالة تأخذ كل وقته، وبها يكتشف ذاته بملامحها الدقيقة، تحتويه وتمنحه قدرة على التعبير قد يعجز عنها خارجها، حاله تجعله يتحدى الحدود، والقهر، حالة تحترم فيه حقه في هذه الحياة، فيصنع سلالمه إليها حتى يسطع حباً.

يدرس قرني جميل في معهد الفنون الجميلة في بغداد وليتخرج منها عام 1977، وفي العام ذاته يتم تعيينه كمدرس في قرية روست التابعة لأربيل، وانتقل في العام الذي يليه إلى قرية ديانا التابعة لراوندوز، بعد أن أجبر أهالي قرية روست للرحيل عنها من قبل النظام البائد، ويتم تدميرها، وفي عام 1979 هاجر إلى إيطاليا وبقي فيها لغاية 1984، وانتقل بعد ذلك إلى إسبانيا ليبقى فيها لغاية عام 2003، العام الذي عاد فيه إلى كردستان العراق، عاد وهو شعلة نور، وكتلة طاقة، عاد وهو بكامل حيويته وعطائه، لديه الكثير ليقدمه لوطنه الذي غاب عنه ما يقارب ربع قرن، عاد وفي جعبته أزاهير جميلة يرغب زراعتها في التربة التي أنجبته، فمارس التدريس في معهد الفنون الجميلة في أربيل، وأسس مجلة "شيوه كارى، التشكيلي" وأصدرها لتلاقي رد الفعل الإيجابي من قبل الوسط الثقافي لا في كردستان فحسب، بل في عموم العراق، وأقام معارض عديدة في كل من أربيل والسليمانية وبغداد، وأشرف على مشروع تطوير متحف الفن الحديث في أربيل.