ملتقى الرواية يحتفي بسيرة الظاهر بيبرس لبيرم التونسي

السير الشعبية أعمال فنية أدبية قصصية، تلتزم في المقام الأول، بالقواعد الفنية القصصية في رسمها للشخصيات، وتحريكها للأحداث.
الرئيس جمال عبدالناصر أمر بألا تنقطع حلقات مسلسل الظاهر بيبرس التي كتبها بيرم التونسي للإذاعة المصرية
بيرم التونسي كان يرى أن سيرة الظاهر بيبرس هي سيرة البطل المنقذ أو المُخلِّص، وهي أقرب إلى فن "الرواية التاريخية" وليست تاريخًا

يقول الباحث عبدالرحمن حجازي إن الرواية العربية عرفت عبر تاريخها القصير مقارنةً بالشعر ذي التاريخ الطويل تطورًا كبيرًا، سواء على مستوى البناء السردي، أو على مستوى الموضوعات والتقنيات والأساليب وتداخل الأنواع التي وظفتها في التعبير الفني، أو على مستوى الجنس الأدبي مثل الأسطورة والقصة الخرافية وقصص كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة والسيرة الشعبية وفن المقامة، إلخ بوصفها أعمالاً أدبية تمثل مرحلة مهمة من مراحل إنتاجنا الروائي، وتحمل بكل ما فيها من ضعفٍ وقوةٍ سمات المرحلة التي ظهرت فيها. 
من هنا يقول الشاعر الكبير الراحل بيرم التونسي (1893- 1961) في مذكراته: "إن إنتاجي الآن وأنا أعيش في حلوان التي لا يلائم صحتي سواها، قاصر على ملحمة الظاهر بيبرس التي تقوم الآن محطة الإذاعة بإذاعتها في حلقات يومية بعد أن كانت قاطعتها بزعم أنها لا تُمثل الحقيقة التاريخية، ولكن ملحمة الظاهر بيبرس مثلها مثل الأدب الشعبي الخاص بالملاحم مثل قصص ملاحم أبوزيد الهلالي سلامة والزناتي خليفة وعزيزة ويونس والزير سالم وعنترة بن شداد، ليس المقصود منها التاريخ بقدر ما هو مقصود منها حفز الهمم نحو تقليد أصحاب البطولات في هذه الروايات، لا سيما أن رواية الظاهر بيبرس كانت تمثل الفصل الأخير من فصول انتصار الصليبيين في العصور الوسطى، فلعلَّها تذكير للعرب بأن واجبهم الأول أن يقتفوا أثر الظاهر بيبرس بطردهم الصهاينة من فلسطين، كما طرد هو والعروبة معه الصليبيين والمغول منها! ووجود مبالغات فنية وخيالات براقة أمور لازمة لاستكمال روعتها الروائية، وإلا كان يجب وضعها ضمن علوم التاريخ إذا كان المطلوب هو سرد الحقيقة عارية! والذي كان له الفضل في إعادة إذاعتها واستكمال حلقاتها، هو الرئيس جمال عبدالناصر الذي أمر بألا تنقطع حلقاتها.. عسى أن يمتدَّ بي الأجل حتى أقوم باستكمال حلقات هذه الرواية، وبهذا تنتهي حياتي مكافحًا كما بدأت مكافحًا؛ إذ لا أنتوي أن أقوم بعدها بأي عمل إلى أن ألاقي ربًّا كريمًا، والحمد لله الذي وفَّقني إلى ما وفقني إليه".
ويوضح حجازي – في الجلسة التي ترأسها د. محمد حمدي إبراهيم – ضمن جلسات ملتقى القاهرة السابع للإبداع الروائي العربي - أن بيرم التونسي كان يرى أن سيرة الظاهر بيبرس هي سيرة البطل المنقذ أو المُخلِّص، وهي أقرب إلى فن "الرواية التاريخية" وليست تاريخًا، إنها إبداع قصصي جماعي لبطل عظيم؛ فقد برز بيبرس أولاً كمملوك وكأمير من خلال دوره الحاسم في معركتي لويس التاسع لمصر عام ١٢٤٩ التي انتهت بمعركة المنصورة، ومعركة المغول بقيادة هولاكو عام ١٢٦٠ التي أوقفها المماليك في عين جالوت، ثم قضى جل سلطنته في جهاد لا يفتر ضد الصليبيين في فلسطين الذين تمكن من استرجاع عديد من المدن والحصون منهم، وضد المغول الذين كانوا يتحيَّنون الفرص دومًا لاحتلال سوريا، ولكنه صدهم عن ذلك مرارًا، بالإضافة إلى قتاله الإسماعيليين في حصونهم على جبال قلعة ألموت في سوريا، والأرمن في دولتهم المتاخمة لسلطنته من الشمال، وهو أيضًا من أحيا الخلافة العباسية في القاهرة بأن عيَّن شخصًا من العائلة العباسية خليفةً بعد أن كان تائهًا في البادية السورية بعد فراره من المغول الذين دمَّروا بغداد وقضوا على الخلافة فيها عام ١٢٥٨؛ مما سبَّب أزمة وجودية عميقة للعالم الإسلامي كله الذي اعتاد وجود خليفة على رأس السلطة الإسلامية لأكثر من ستمائة سنة. 

هكذا، كانت صورة السلطان بيبرس، بسبب أعماله المتلاحقة وانتصاراته المتتابعة، وإنشاءاته المتتالية، في أذهان الناس وملء السمع والبصر، حتى أصبح في ذهن عامة الشعب إنسانًا أسطوريًّا، تنسج حوله القصص، وتنظم في حياته السير.
ويرى عبدالرحمن حجازي أن أي سيرة شعبية لا تخلو من مكونات تاريخية، مهما كانت درجة الكثافة الأسطورية في خطابها؛ حيث تشير عناوين السير الشعبية إلى شخصيات، أغلبها مذكور في التاريخ العربي والإسلامي، والواقع أن استعمال السير الشعبية للمادة التاريخية أبعد من هذه الإشارة، فأغلب هذه السير يدور حول شخصيات ووقائع لها أصل تاريخي، وغير قليل من المعالم والمواقف والأحوال الموصوفة فيها تحوي أصولاً تاريخية، ولكن هذا لا يعني أن السير الشعبية مؤلفات أو كتب تاريخية تُؤرخ لأشخاص أو فترات أو أحداث، ولا يعني أيضًا أنها تلتزم بضوابط الصحة التاريخية والتوثيق المنهجي، ويجب ألا ننسى أن السير الشعبية أعمال فنية أدبية قصصية، تلتزم في المقام الأول، بالقواعد الفنية القصصية في رسمها للشخصيات، وتحريكها للأحداث، ووصفها لمجال حركة هذه الشخصيات والأحداث، وعندما تتعامل السير الشعبية مع وقائع التاريخ، فإنما تتعامل معها باعتبارها مادة تستعملها وخيوطًا فنية تنسجها مع خيوط أخرى في نولها الفني؛ حيث يجري على المادة التاريخية ما يجري على المواد الأخرى من إعادة التشكيل والصياغة، إلى أن تتسق سائر العناصر الفنية وتتكامل، وفق منظور مُنتجيها ومعاييرهم الجمالية.
ويشير حجازي إلى أن شخصية السلطان "الظاهر بيبرس" تعد من الشخصيات التاريخية التي تتسم بالبطولة، وقد تعاملت معه الذاكرة الشعبية، وصنعت له "سيرة شعبية" كبيرة جُمعت فيما يقرب من ثلاثة آلاف صفحة من الحجم المتوسط على الرغم من مكانة صلاح الدين الأيوبي وغيره؛ حيث كان الظاهر بيبرس، ككل أبطال السير، صاحب الخوارق والقوة الأسطورية، وبذلك صارت سيرة الظاهر بيبرس قصصًا أو حكايات يمتزج فيها الخيال بالحقيقة التاريخية، فهي حقائق تاريخية محرفة بدرجات متفاوتة، وغالبًا ما تتضمن أعمالاً بطولية ومغامراتٍ خارقةً، وبذلك جاءت السيرة الظاهرية، آخر الأعمال الملحمية العربية، عملاً فنيًّا، يعكس هذا الواقع ويشجبه؛ ليرسم في ضوئه الواقع الاجتماعي المنشود، ويُسهم في بناء المجتمع المثالي، وبيان سمات الحاكم العادل، أو البطل المنتظر أو المخلص أو الموعود على حد تعبير السيرة.
وأكد الباحث أن الظاهر بيبرس تحول في الوجدان المصري من حاكم عادي إلى بطل يروي سيرته قصاصون محترفون أو شعراء الربابة في مقاهي القاهرة، ودمشق أيضًا، التي تخصص بعضها في سيرته حتى وقتٍ قريب، وكانت تُعرف هذه المقاهي بـ "المقاهي الظاهرية"، وهذا يعد استثناءً في التاريخ العربي والتاريخ بوجه عام، وقد أضاف شعراء الربابة على هذه السيرة أشعارًا وأزجالاً وأمثالاً شعبية لجذب المستمعين حتى أصبحت أضخم ملاحم الأدب الشعبي العربي؛ إذ يبلغ عدد صفحاتها بعد تجميعها حوالي 16 ألف صفحة.
وعودة إلى بيرم التونسي الذي أعاد صياغة هذه السيرة بشكل بانورامي، تداخلت فيه الأنواع الأدبية بشكل كبير، كما ضمنها كثيرًا من الإسقاطات السياسية والاجتماعية للحاضر الذي نعيشه حتى الآن، هذا بالإضافة إلى مجموعة هائلة من الأشعار والأزجال التي ترسم السياق الدرامي والفني لأحداث السيرة وسردها.

والحقيقة أننا إذا تأملنا هذه السيرة التي قُدِّمت بالإذاعة المصرية على حلقات في جزأين: الجزء الأول في 100 حلقة، زمن الحلقة نصف ساعة، أما الجزء الثاني فكان في 88 حلقة مدة الحلقة ربع ساعة، وقد تُوفي بيرم التونسي في 5 يناير/كانون الأول عام 1961 في أثناء إذاعة هذه الحلقات، وبالتحديد بعد إذاعة الحلقة رقم (79) من الجزء الثاني، وكان قد سبق له الانتهاء من الكتابة حتى الحلقة (87)؛ فأكمل الشاعر عبدالفتاح مصطفى وكتب الحلقة الأخيرة (88)، والتي سوف تطبع قريبًا بالهيئة المصرية العامة للكتاب، يزداد انبهارنا بالموسوعية المعرفية للعبقري بيرم التونسي في فنون وأفكار وأنواع أدبية شتى، فنراه مستوعبًا جيدًا لأحداث التاريخ، وعارفًا بجغرافية المنطقة التي دارت فيها الأحداث، ومحللاً لسيكولوجية الأشخاص والجماعات التي أتى ذكرها بالسيرة، ومطوعًا وناحتًا للكلمات، شعرًا وزجلاً ونثرًا، كي تعبر عن المواقف الدرامية، وأشياء كثيرة لا يمكن أن تتوافر في شخص واحد إلا إذا كان عبقريًّا بمعنى الكلمة.
وهكذا فإن هذه السيرة ببنائها المحكم، وسردها الرشيق، وعباراتها المرسلة أو المسجوعة، وأحداثها المتلاحقة، تعد نافذة نطل منها على تاريخ المنطقة والصراعات المحتدمة فيها، وعملاً روائيًّا وإبداعيًّا صاغته عبقرية الشاعر الكبير بيرم التونسي قبل وفاته مباشرة.