من قتل حكمت والنورس والشجرة؟

الجريده أرسلت مندوباً عنها لتغطية تهديم "قصر النهاية" وتسويته بالأرض. كانت البلاد على مشارف تحولات كما قيل.
أشيع عن فنون الموت في هذه الأقبية المجهولة، ما يصعب على العقل تصديقه
من قتل النورس؟ قصة كتبها صديق قريب إلى قلبي جداً

في يوم ما أرسلت الجريده مندوباً عنها لتغطية تهديم "قصر النهاية" وتسويته بالأرض. كانت البلاد على مشارف تحولات كما قيل. 
وقتها كان العديد من المناضلين يتساقطون في شوارع وأزقة بغداد.. ستار، الجاسم، الخضري، وأسماء كثيرة أقل قامة من هؤلاء لكنها متساوية معهم في النهايات. 
من؟ من الفاعل؟ من القاتل؟ من قتل حكمت الشامي؟ لكن سؤال المبدع جمعة اللامي يظل بلا إجابة.
سُوي قصر النهاية بالأرض، أريد طي تاريخ دموي، وبداية مرحلة جديدة. هكذا قيل، لكن قصر النهاية تحول عملياً إلى قصور نهاية، أو نهايات، مبثوثة في أنحاء البلد، من يدخلها لا يخرج منها إلا إلى باطن الأرض، هذا إذا وقع تحت يد رحيمة تكتفي بإزهاق روحه فحسب.
أشيع عن فنون الموت في هذه الأقبية المجهولة، ما يصعب على العقل تصديقه، هول ما كان يشاع فوق التصور، بدا للبعض مبالغ فيه بقصدية، لكن بعض الذين قيض لهم الخلاص من المثرمة تحدثوا ببعض ما تعرضوا له. ربما كانت هذه هي المهمة التي كلفوا بها. إشاعة الرعب كانت أبشع من الرعب ذاته. 
من قتل النورس؟ قصة كتبها صديق قريب إلى قلبي جداً، شاءت الظروف أن تكون ضمن حصة القصص الشهرية التي أقدم لها نقداً في صفحتنا الثقافية. دم في الشوارع والأقبية والأرصفة. دم متخثر في كل مكان. 

إذا لم نعرف القاتل، الجاني، إذا ظل كل ما حدث ويحدث مقيدا ضد مجهول، وهو معلوم بصفته وعنوانه وهويته، ومن دونما لبس، فلا أمل، ولا عزاء

عندما تدهس شاحنة نورساً أو طائراً، تلطشه بالأرض، تجعله بدمه وعظامه وريشه ليس أكثر من بقعة ملصوقة بأسفلت الشارع. هذا ليس إكتشافاً عبقرياً، وإنما صورة مكررة في شوارع المدينة التي كثر فيها راكبو السيارات الفارهة، محدثو النعمة، النزقون، غير المبالين بمن  أمامهم بشراً أم حجراً أم طيراً. صديقي القريب إلى قلبي رسم صورة مغايرة، كتب أن الشاحنة بعد أن دهست النورس، سال دمه، ثم جرى في الساقية الجافة، ليصب آخيراً في فوهات المجاري. 
عقبت على هذا المشهد: "هل هو نورس أم بعير؟". صديقي الذي كان قريباً إلى قلبي خاصمني وقاطعني، استمرت مقاطعته لي أكثر من نصف قرن، لأنني لم أراع الصداقة، حسب أني أتهكم عليه. 
لا أدري ربما كان بإمكاني أن أكتب بعبارات أخرى لأوصل الفكرة. لكنني لم أكن أتهكم بأية حال من الأحوال. منذ ذاك الزمن البعيد عرفت أن النقد سوف لن يجعل لي صاحباً، وهذا ما حدث بالفعل. 
أن تزاول النقد عليك أن توطن النفس بالمزيد والمزيد من الخسران، ليس خسران الأصدقاء، ومن تنتقد فقط، وإنما خسران الراحة والأمان. 
يوماً دخل الشاعر والروائي والتشكيلي والصحفي الكبير يوسف الصائغ إلى الجريدة وهو منفعل على غير عادته، سألته: ماذا بك؟ 
رد: لقد اغتالوا الشجرة!
يومها كتب عموداً رائعاً بكل المعاني عن تلك الشجرة المعمرة في ساحة التحرير، والتي لم تجد أمانة العاصمة من وسيلة أخرى سوى احتطابها. 
"من قتل الشجرة؟" هو عنوان عمود الصائغ الذي كتبه في دقائق. 
كنت أسمع همس زملائي، ماذا جرى ليوسف، الموت والقتل في كل مكان ويوسف يكتب عن قتل شجرة؟ 
فيما بعد، قيض ليوسف الصائغ أن يعيش ليرى احتطاب غابات النخيل في البصرة، وربما ردد "عيناك غابتا نخيل ساعة السحر"، ترى ماذا سيقول يوسف الآن لو عاد ليرى تصحر أرض الرافدين، وتحويل المدن إلى مدن قرعاء بلا شعر. 
من يستسهل قتل الإنسان يهون عليه قتل النورس والشجرة وخيانة وإغتيال الأوطان. 
من قتل حكمت الشامي؟ 
من قتل النورس؟ 
من قتل الشجرة؟ 
أنا محبط .. محبط لحد الإنسحاق. 
لم يعد بالإمكان عد القتلى. ولا بالإمكان إحصاء أعداد سيد الشجر المقتنى الذي إقتلع من جذوره أو أحرق. لم يعد بالإمكان إحصاء الخسارات والفقد الذي طال كل شيء، إنحسر الفراتان، سيجفان لا محال.
منذ أن خدعنا بمسرحية هدم "قصر النهاية"، منذ أن لم نفطن لإنتشار "قصور النهايات" إنتشار الفطر السام في بلدننا الر ائع الجميل. 
منذ أن فتحنا أبواب الوطن وشبابيكه لمن جعلنا وأرضنا حقل تجارب. 
منذ أن لم نستطع الإجابة على سؤال جمعه، يوسف، وسؤال صديقي الذي أحب، منذ زمن موغل بالقدم يا سادتي قيدت كل الجرائم ضد "مجهول". 
وإذا لم نعرف القاتل، الجاني، إذا ظل كل ما حدث ويحدث مقيدا ضد مجهول، وهو معلوم بصفته وعنوانه وهويته، ومن دونما لبس، فلا أمل، ولا عزاء.