الشعوب ليست سوائل تجري في أوانٍ مستطرقة

لا نقسوا على أنفسنا كثيرا. كل الشعوب مرت بحروب ومأس وتعلمت من تجاربها.

خياران لا ثالث لهما أمام ساسة المنطقة، أما الإتكال على العنصرية والطائفية، وإستحضار ما يؤججهما من التأريخ، وصولاً إلى قطع الطريق أمام الخيار الثاني، الذي يستوجب مغادرة الآفتين، وإختيار ما يسخفها ويكشف حقيقتهما ومن التأريخ ذاته.

من حسن حظ المنطقة أنها تضم ثلاث أمم كبرى لها سجلها في التاريخ الإنساني، ولهم إمتدادهم بحيث يشكلون معاً مهد الوجود الحضاري الفاعل، وتجمعها مشتركات قلما توفرت لغيرها من الأمم المتجاورة، شكلتها ثقافة واحدة وعقيدة واحدة وتأريخ مشترك، وأرض تسخر بالخيرات وتتوسط العالم، ومنها وعبرها يمكن الإطلالة على كل العالم، وربط دوله بعضها ببعض، وطبيعي أن يكون هذا التاريخ المشترك مليء بالمآسي والمحن، تلك المآسي التي فجرها طموح الحكام للسلطة والسيطرة، ولكن المتتبع لأحداث التاريخ البشري يرى أن هذه المآسي والمحن لم تكن حكراً على أبناء هذه المنطقة، بل أنها شملت كل المعمورة وبدرجات أكثر قسوة وهمجية، نتيجة هيمنة وتحكم التشكيلات الاقتصادية الإجتماعية التي تذرعت بذرائع خلقتها أو فبركتها لتثبيت هيمنتها وإستمرار هذه الهيمنة.

أن الحديث عن مجازر العثمانيين والصفويين يتصاغر أمام معرفة المجازر التي حدثت بين دول أوروبا وشعوبها، وليس أقلها الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا جرائم الإبادة بين الشمال والجنوب، والفرنسيين والإنكليز، والإنكليز والأسبان، والفرنسيين والألمان، وجرائم دول أوروبا الإستعمارية إزاء المستعمرات، وجرائم الأوروبيين إزاء السكان الأصليين في الأميركتين، وفي الشرق جرائم الإبادة التي لا مثيل لها بين اليابانيين والصينين، وبين بقية شعوب المنطقة، أن محاولة البعض إبراز بعض المحطات المظلمة من تأريخ المنطقة وإظهار أننا لوحدنا من نهجنا هذا النهج، محاولة ساذجة، وهي في أحسن الأحوال تنم عن جهل مزري بوقائع التاريخ. إن من لا يقتنع بأن الجرائم والآلام والمآسي كانت في الماضي بفعل أطماع البعض للسيطرة والهيمنة ما عليه إلا النظر الآن للمآسي والمحن التي تعاني منها الشعوب، والبحث عن مسببيها، أليسوا هم نفسهم أولئك السلطويون، المستغلون؟ أليست الذرائع هي نفسها، تستند على مفاهيم عنصرية وطائفية، ولكن بأغطية معاصرة، لا يصعب على الفطن كشفها، أولم تستعمر الشعوب بذريعة تحريرها وتحضيرها وتطويرها والنهوض بها؟

لنركن جانباً كل الذرائع الواهية، سواءً منها ما تعلق بالعرق الأكرم والأعظم والأكثر قابلية للتطور، أو العرق الذي وهبه الله السيادة على بقية الخلق، علماً أن ليس ثمة أبله يتصور الآن أنه ينتسب لعرق صاف بعينه، ونبقي على الله رب البشر جميعاً، وننحي ما أضافه الفقهاء بأعتبار أنه إجتهاد بشري يقبل الخطأ والصواب، وغير ملزم، وليس هو بالضرورة الواسطة للوصول لرضى الخالق، فرضى الخالق يكون مضموناً بالعمل الجيد والخير والنافع، وهذا ما لا يختلف حوله دين.

لنفرق ولو للحظة تأمل صافية بين الحكام وسلوكهم الإجرامي والشعوب المستلبة قسراً، عندها سنبصر الطريق السوي للعيش والنمو لا محال.

****

مثل هذه النظرة التي ندعوا اليها قد يقول قائل هي لملائكة لا لحكام، لهؤلاء نقول أن حكام أوروبا ليسوا ملائكة، بل أن بعضهم لا يختلف عن الشيطان ولكن بهيئة إنسان، لكنهم يعملون برغمهم على توطيد مصالح شعوبهم، رغم فسادهم ولا جدارتهم أحياناً، لكنهم كلفوا بهكذا أمر تماماً مثلما يكلف رئيس شركة بادارة شركة هي ليست له حصراً، معيار نجاحه تطور الشركة، ومعيار نجاح حكام أوروبا تطور بلدانهم ومواصلة النمو، ورفاهية شعوبهم، وهم يدركون أنه لا يتم لهم هذا إلا ضمن العيش في تكامل وأمن مع محيطهم، وضمن دول قوية تضمن لهم ما ينشدون، وليس دولا ضعيفة هشة، تساهم في تخلخل الأوضاع في أوروبا برمتها، لذلك تراهم يتسارعون لإنقاذ إسبانيا أو إيطاليا أو اليونان من الإفلاس، ويقونهم لأنهم يدركون بأن قوتهم قوة لأوروبا، وستعود عليهم بالنفع، وما هو النفع إن لم يكن أماناً وإ نتعاشا، وإطراد نمو.

ما أدركه ساسة الغرب على ساسة المنطقة إدراكه، وإلا فالمصير سيكون أسوأ مما هو حاصل الآن.

أن يعمل البعض على إضعاف البعض قصد إستمرار ضعفه لمد النفوذ، على قاعدة الأواني المستطرقة، على أن يتحول النفوذ فيما بعد إلى تبعية، فهم قاصر وآني وبالغ السطحية، لأنه لن يحقق شيئاً ما خلا الفوضى، فالشعوب ليست سوائل تجري في أواني مستطرقة أم غير مستطرقة. أن مشاعر الغبن والظلم والمهانة تدفع الشعوب لأختيار طرق أخرى لرفض الهيمنة والإنقياد والشعور بالدونية، قد تكون ثورية أو مدمرة للمنطقة برمتها.

البديل عن هذا المآل تعاون الأمم الثلاث، الحرة، السيدة، القوية، الموحدة، القادره على حماية أمنها وأمن جيرانها، المحترمة لتعهداتها النابعة حقاً عن المصالح المشتركة.

لا للعنصرية والطائفية، نعم للمشاركة المتساوية في صنع مستقبل المنطقة.