هل عمل المؤسسات الدينية خيري أم إنتاجي إستغلالي؟

من يقول للمؤسسات الشيعية والسنية متى صرتم مؤسسات تتحكم بمصائر الناس وثروات البلد.

للمؤسسات الدينية في كل مكان مصادر مالية لا تنضب، تعتمد أساساً على تبرعات نقدية وعينية للتابعين لها، ومن إيرادات عقارات تابعة لها، أو موقوفة لحسابها، وهي مصادر متجددة باستمرار وعلى مدار السنة، قلما تخضع هذه الأموال لإشراف الدولة، أو لرقابتها، والعذر أن هذه المؤسسات ينبغي أن تكون مستقلة تماماً، وهذه الإستقلالية تحول دون أي إشراف من قبل السلطات الحكومية، التي هي غالباً مُتغيرة، مُتبدلة، في حين تتمتع المؤسسات الدينية بالإستقرار النسبي. لكن هذا لا يمنع مثلاً من أن تقدم إيطاليا لدولة الفاتكيان إعانة مالية سنوياً، قيل أنها عبارة عن تعويض لما فقده الكرسي البابوي، بعدما تحول من دولة تتحكم بالعالم، وتُعين الملوك، إلى دويلة مساحتها لا تتعدى النصف كيلومتراً، مع حق الفاتيكان بالإشراف على الكنائس التابعة له في الجغرافية الإيطالية كافة.

قبل عصر النهضة كان كل شيء ملك الكنيسة والبابا، الذي يتحكم روحيا بالإتباع وإقتصاديا أيضاً، أي أن التحكم في هذه الحالة كان مطلقا.

فيما يتعلق بالعراق لم يمر بمثل هذه الحالة، فالمؤسسات الدينية لم تكن مستقلة تماماً، ربما بإستثناء المؤسسة الشيعية التي كانت مستقلة نسبياً عن السلطات العراقية وغيرها، بسبب من عدم إعتمادها إقتصاديا على الدولة، بل كانت تمول نفسها ذاتيا، على العكس من المؤسسات السنية التي كانت الدولة تصرف عليها بدءأ من إمام الجامع، والمؤذن، والحارس وحتى المنظف، وتشيد المساجد بأموال الدولة. ويشمل الإستقلال النسبي المؤسسات الدينية المسيحية، وبقية الطوائف وإن كان بدرجات أقل.

الأموال التي يدفعها المؤمنون بشتى أشكالها هي أموال مدفوعة لأجل الخير والنفع العام، وتدخل في باب الإحسان، وبعضها، وهو الجزء الأهم المُتمثل بالخمس، معروفة أوجه صرفه، وهي أيضاً تندرج في أعمال الخير والنفع العام، هذا هو مُبرر وهدف دفعها، وهي ليست صكوك غفران تضمن لمقتنيها الجنة، فخيرها يتأتى من نفعها، وإلا فإنها إن لم تصرف على الوجه الصحيح فإنها لن تلامس حدود الخير والنفع العام، وسوف لن يستفيد المجتمع منها، ولن يتحقق مبدأ "التكافل الإجتماعي" وهو أهم بند في التشريع الإلهي، أما القول بمبدأ "النية " وأن فاعل الخير يكفيه نيته، فهو تبرير لإستغفال الناس، وإصرار على سرقتهم باسم الدين.

يستغرب بعض الناس، وهم على حق، وجود فقراء معوزين جوار مكة والمسجد النبوي، وجوار كربلاء والنجف، وبقية المدن المقدسة، ويتساءلون وهم على حق أيضاً: أين واردات هذه البقاع المقدسة؟

ويزداد إستغرابهم عندما يرون هذه الأموال تصرف وتنفق على أمور أخرى، لا علاقة لها بإطعام مسكين أو إيواء مشرد، أو كفالة يتيم، أو طاعن في السن، أو من ذوي الإحتياجات الخاصة، ولا تبني دورا لمن لا يملك داراً، ولا تشيد مستشفى يعالج الناس مجاناً، ولا تنشئ مدارس للتعليم، ولا رياض أطفال، وإنما تنشيء مؤسسات إنتاجية لا تختلف عن أي مؤسسات أخرى، بإستثناء أنها لا تخضع لإشراف الدولة ولا تدفع ما عليها من ضرائب، ولا تقدم كشوفاً مالية للدولة، إنها منشغلة بجعل الناس قوة عمل لديها، فإذا إستصلحت أرضاً حكومية فهي التي تستثمرها، ولا توزع ما أستصلحته على المستحقين من خريجي الزراعة، وإذا أنشأت مستشفى فهي التي ستديره، وتجعله وسيلة لا تختلف عن غيرها من وسائل الإبتزاز، وهي بهذا تحدث قطيعة تامة بينها وبين الهدف الحقيقي المتمثل بالإعمال الخيرية. هي ليست سوى مستثمر مستغل، يستثمر أموال الناس، مستغلاً إمتيازات بلا حدود تمنحها له الدولة التي هي دولة الناس، لمنفعة فئة محددة توزع المغانم بعضها على بعض، وتتحكم بلقمة الناس، وبعد أن هيمنت روحيا على العباد هاهي ذي تهيمن إقتصادياً، وتعيد الزمن القهقرى، إلى زمن الدولة البابوية وحكم الأكليروس.

من ذا يقول لمؤسساتنا الدينية، وبالأخص الشيعية والسنية: ستوب! ما هذا دوركم، ولا هذا هو العمل المناط بكم، لا تبدلوا الخير بالإستغلال، ولا تستثمروا الإيمان بما يتعارض معه جوهرياً، كونوا أمناء لما وضع تحت أيديكم، رحماء بناسكم، وبالأخص ضعاف الحال والمتعففين، وحيث أن الحكومات المتعاقبة خرقت خرقاً لن يرتقع، فأن واجبكم التقليل جهد الإمكان من معاناة الناس التي أصبحت لا تطاق، إبنوا مدارس بدل مدارس الطين، وقدموها للتعليم، وإبنوا مستشفيات وقدموها للصحة، وإستصلحوا الصحراء، وقدموها للعاطلين عن العمل من الخريجين، ليس قدوتكم الرأسمالي المستغل، ولا شأن لكم بالبيض والدجاج، ولا صنع الدبابات، ولا إنشاء الفنادق، وبحيرات الإسماك، وتسمين العجول، عملكم خيري، فأنتم دعاة للخير وعاملين من أجله، أم أنكم إخترتم طريقاً آخر!