من منا قادر على التخلص من السموم الرقمية

السموم الرقمية تستمر في سريانها بدمائنا وتحريك أدمغتنا، من دون أن تتوفر لدينا الإرادة النهائية على التخلص منها.
سموم رقمية

تشكك جو إليسون الكاتبة في صحيفة فاينانشال تايمز في قدرة الإنسان المعاصر على التخلص من السموم الرقمية، ليس لأنها لا تريد ذلك بل لأنها أكثر واقعية من الكلام الفارغ والنصائح المتشابهة، بتجنب متابعة الأخبار وعدم الرد على الرسائل النصية واللهو بأي شيء، إلا الهاتف الذكي.

مع ذلك يستمر سؤال إليسون المشكك في رغبة أدمغتنا في التخلص مما أسمته “السمية الرقمية” لأنها لا تندرج تحت مواصفات إدمان الكحول والمخدرات، ثمة إرادة ورغبة لدى المدمنين في التخلص من التعاطي مع الشراب والمخدرات، ولا تتوفر مثل هذه الإرادة في أدمغتنا للتخلص من الاستعانة بحياتنا الرقمية في البريد الإلكتروني والشغف بالمتابعة الإخبارية لأحداث العالم، والتلصص الدائم على الاستعراض الفوتوغرافي والآراء المكررة للأصدقاء على منصاتهم الشخصية، مع أنها لا تضيف أكثر من الشعور المكرر بالإزعاج والتندر والغيرة أحيانا، لكنها سموم رقمية نتسابق بتوق لتعاطيها لينتابنا في النهاية الشعور بالإنهاك والجمود الفكري والصداع وألم العينين، ولا نأخذ العبرة في اليوم التالي ونحن نعود لعادتنا المستمرة من دون أن نشعر بالندم.

صنعت جو إليسون ما أسمته بثنائية Fomo التي كانت تصيبنا في الماضي بالخوف من أن يفوتنا أي شيء، والتي تحولت إلى Jomo اليوم وتعني الاستمتاع بالابتعاد عن كل شيء والشعور بالتحرر الذي يأتي مع قطع الاتصال ووضع الهاتف جانبا. كل ذلك جزء من الموضة الجديدة للعناية الذاتية العقلية، لأن الهواتف سيئة للغاية واستنزاف قوتها أمر جيد.

لا تشكك هذه الكاتبة في نصائح الخبراء النفسيين والأطباء، لكنها لا ترى أي تأثير فعلي لما ينصحوننا به “لأن الشخص الوحيد الذي سيفتقدك على هاتفك أثناء التخلص من هذه السموم سيكون أنت”.

أنا مثلكم أعيش الفظاعة التي يمكن أن تكون عليها الرسائل الإلكترونية والنصية، ومازلت سجينا لدوامة الأخبار، هذا بحكم عملي الصحافي، لكن ماذا عن الكم الهائل المتدفق من تلك الفظاعات التي ترد علينا يوميا، هل نمتلك القدرة على تجاهلها؟ سيكون ذلك ممكنا عندما نتجاهل هاتفنا الذكي، من منا قادر على التخلص منه؟

لا أتحدث عن نفسي مثالا في الفشل بمعالجة السموم الرقمية من أدمغتنا، الأمثلة معروفة ومتواصلة ويمكن أن نشير إليها أينما نمر اليوم في الطرقات أو في المقاهي والحافلات.

فحتى اللحظات التي تريد التمتع بها بعيدا عن التدفق الرقمي المتواصل تجد نفسك حائرا وقلقا في العودة إليها، في حفل أعياد الميلاد السابق نظمت المؤسسات الإعلامية وشركات النشر في الدول الأوروبية حفلا ضخما في لندن منتصف النهار، فبدا لي أغلب الحاضرين أخذوا وقتا مستقطعا من أعمالهم كي يعودوا لاحقا، فلا هم يعملون ولا هم في استراحة! ولم تستطع كل فعاليات الحفل الجميلة من سحب الحاضرين من هواتفهم، كانت اللمسات جدية وهي تضغط بعجالة على شاشة الهواتف للإجابة على رسائل تعتقد أنها مصيرية ومستعجلة، لماذا هذا الشعور؟ ذلك ما فسرته إليسون في ثنائية “فومو” بالأمس و”جومو” اليوم.

هذه بلا شك السموم الرقمية التي تستمر في سريانها بدمائنا وتحريك أدمغتنا، من دون أن تتوفر لدينا الإرادة النهائية على التخلص منها.

وتقول “من حيث المبدأ، أؤيد بقوة التخلص من السمية الرقمية” لأنها وحدها من تفهم أننا الآن سجناء لتكنولوجياتنا ومستعبدون من قبل هواتفنا الذكية. وتعترف بأن إدمانها على هاتفها مثير للاشمئزاز “أقضي نصف حياتي في رغبتي في رميه في نهر التايمز والنصف الآخر في البحث عنه، فقط لأجده في يدي. لكن هل يمكنني التخلص من السمية الرقمية؟”.

الأسبوع الماضي نشرنا على هذه الصفحة خلاصة لتقرير من صحيفة الغارديان البريطانية، توصل إلى نتيجة مخيفة بأن عصر الأخبار الصادمة على مدار الساعة يصيب الجمهور بمرض اللامبالاة.

وتعتبر كاتبة التقرير إليسا غيبيرت أن تغطية الأخبار الكارثية التي أصبحت الآن تأخذ منحى محدودا مشكلة في حد ذاتها، بينما يمثل عدم اكتراث الجمهور مشكلة أخرى. ولكن قد يكون هناك سبب وجيه لكلتا المشكلتين، بعيدا عن الانهيار الأخلاقي.

إلى أن تصل إلى نتيجة مفادها أن “اللامبالاة أو عدم الاكتراث بالأعمال الوحشية الحقيقية التي تحدث من حولنا، قد تبدو قاسية بعض الشيء. ولكن عدم الاكتراث، بالمعنى الطبي، ينبع بشكل أساسي من الرغبة في المساعدة. حيث لا يوجد شعور بعدم الاكتراث أو اللامبالاة من دون الشعور أولا بالتعاطف: فالأشخاص الذين يعتنون بأشخاص آخرين يشعرون بالمعاناة، ويريدون التخفيف من معاناتهم. لكنهم لا يستطيعون النجاح دائما”.

هذه بلا شك السموم الرقمية التي تستمر في سريانها بدمائنا وتحريك أدمغتنا، من دون أن تتوفر لدينا الإرادة النهائية على التخلص منها. إلا إذا اتخذنا مسار الحياة المختلفة الذي يسلكه الناشط البيئي مارك بويل، وهو كاتب نباتي مهتم بالتواصل الطبيعي بين البشر، يرفض التكنولوجيا لأنها حسب رأيه تدمر الناس والأماكن.

أزمتنا تكمن في وسائل الإعلام الرقمية التي أعادت تركيب حياتنا، لذلك جرّب بويل أن يفطم نفسه عن وسائل الإعلام ليعيش التجربة، لكن ماذا حصل بعدها. لقد أعاد اكتشاف متعة الكلام الهادئ والنقاش الودي مع الجيران والأصدقاء، بدلا من التحدث والتعليق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

لم يكن يعتقد هذا الكائن المتمثل بالأشجار الحرة والماء الرقراق في البيئة الإنكليزية المتسقة مع الطقس، إن الأخبار في حد ذاتها أمر سيء، مع أن الأخبار لا تصبح أخبارا عند وسائل الإعلام إلا عندما تكون سيئة! لكنه لم يكن يرغب في قراءتها لأنها أصبحت مملة وأكثر ضررا على النفس.