'مونسيرا' تستحضر الموت من أجل قضية

مسرحية الجزائري الفرنسي إيمانويل روبليس تدور حول شخصية ضابط إسباني فَزِع مما يحدث للسكان الأصليين على يدِ جنودِ دولته وأُعجِب بمقاومة يخوضها هؤلاء السكان في سبيل حريتهم.

خرجت أعمال الروائي والمسرحي الجزائري ـ الفرنسي إيمانويل روبليس (من مواليد 4 مايو/ايار 1914 وهران، الجزائر - توفي في 22 فبراير 1995 بولوني، فرنسا) من الحرب والصراع السياسي الذي شهده في أوروبا وشمال إفريقيا، حيث كانت موضوعات جل كتاباته تتمثل في المقاومة العنيدة للأبطال لمعذبيهم السياسيين أو الاجتماعيين. فقد شارك في الحرب العالمية الثانية بصفته ضابطًا مترجمًا، وجند في هيئة الأركان الجوية في الجزائر العاصمة، وعين مراسلا حربيا للقوات الجوية، وأُرسِل إلى الكثير من الدول الأوروبية. عمل مع ألبير كامو، الذي التقى به عام 1937، وأصبحا منذ ذلك الوقت صديقين مقربَين، وفي العام التالي انضم روبلس إلى مجموعة الكتاب الشباب، وهو من أوائل المترجِمين لشعر الكاتب الإسباني لوركا.

وقد وثقت مسرحية " مونسيرا" التي ترجمها حليم طوسون وصدرت أخيرا عن مؤسسة هنداوي أحد أوجه النضال الذي خاضته أمريكا اللاتينية، وبالأخص فنزويلا، في سبيل استقلالها من الحكم الإسباني، متسائلة بمهارة عن الحرب والأخلاق والانتقام والخيانة وثمن الحياة فيما يتعلق بمصير شعب.

وتدور أحداثُ المسرحية حول شخصية الضابط الإسباني "مونسيرا"، الذي فَزِع مما يحدث للسكان الأصليين على يدِ جنودِ دولته، وأُعجِب بالمقاومة التي يخوضها هؤلاء السكان في سبيل حريتهم، وخاصةً شخصية "بوليفار" زعيم الثوَار الفنزويليين، فيقرر الضابط عندئذ حمايةَ هؤلاء الثوار محذرا زعيمَهم "بوليفار" من مَساعي الإسبان للقبض عليه، وهو ما يمكن "بوليفار" من الهرب، ويؤدي إلى القبض على "مونسيرا" وتعذيبه من خلال القبض ستة فنزويليين بشكل عشوائي في الشارع، ويتم تخييره بين إعدامهم بعد ساعة أو إعلانه عن مكان اختفاء بوليفار زعيم التمرد، وبالنهاية يقدمونه للمحاكَمة بتهمة الخيانة تمهيدا لإعدامه. يتساءل "مونسيرا" هل يحق لنا أن نضحي بعدد قليل من الأبرياء من أجل إعطاء فرصة "ممكنة" للحرية والكرامة لشعب بأكمله؟ من سيفوز: الشفقة المباشرة على أرواح ستة أشخاص، أم التحرر والاستقلال خدمة لأمة بأكملها؟ وفي مواجهة هذا الاختيار الرهيب يتجلى الإيمان المطلَق بالقضية عندما يرفض "مونسيرا" البوح بمكان "بوليفار"، ويدفع حياتَه ثمنا لذلك، مؤمنا بأنه يموت من أجل قضية نبيلة.

المسرحية من ثلاثة فصول، تستذكر الحرب العالمية الثانية والذكريات المؤلمة للاحتلال والفظائع التي ارتكبها النازيون، ولا سيما الأعمال الانتقامية الوحشية التي أعقبت المقاومة، بما في ذلك أخذ الرهائن وإعدامهم.

ويبقى أن البربرية التي تعريها أحداث هذه المسرحية ليس لديها وقت، ففي الواقع، هذه القسوة، وهذه المذابح، التي تعريها، ليست من العصر البوليفاري تحديدًا حيث يضع المؤلف مسرحيته، ولكنها تمتد عبر قرون وحتى اللحظة الراهنة وفي أركان العالم الأربعة.. فأولئك الذين عذبوا جميع الفنزويليين حتى الموت في عام 1812، كان لهم في الواقع أتباعهم في معظم البلدان المتحضرة. ومن الصعب اليوم أن نتقبل حقيقة النازية، وواقع المهجرين من كوسوفو، ومعسكرات الإبادة في سيبرينيتسا. من الصعب أن نتقبل المذابح في الجزائر، أو الإبادة الجماعية في رواندا، أو التطهير العرقي في صربيا. كل هذه القتل للإنسان يذهب هباء ولا رادع ولا عبرة ونبدأ من جديد هنا أو هناك، في هذا العصر أو في آخر... نفس الجرائم، في نفس الجولة ونعيد إنتاج نفس المآسي، بعد خمسة وعشرين قرنا من تلك التي كتبها سوفوكليس.

المشهد الثامن

(مونسيرا ـ إزكويردو)

(الطبول تُدق من جديد إيذانًا بإعدام الأم. مونسيرا لا يزال متكئًا على المائدة وذقنه على صدره، إزكويردو يُحاول استنفاذ كل سخطه بالسير جيئة وذهابًا).

إزكويردو (بعد لحظات من الصمت): لولا الأب كورونيل لاستطعت أن أحتفظ بها! أجمل فتاة قابلتها في حياتي! هذه النظرة! هذا القوام! وأنت يا مُغفَّل! ألم تكن تستطيع.. (يهزُّ كتفَيه، صمت، دق الطبول يزداد بسرعة) أتثق حقًّا في بوليفار إلى هذه الدرجة؟ أتعتقد فعلًا أن الحرية ضرورية لبضعة آلاف من الهنود الأغبياء والزنوج القذرين؟ ماذا يفعلون بهذه الحرية؟ مائة ألف منهم لا يُساوون شعرة من رأس إيلينا! (في ثورة) ولكنَّنا لم نُنهِ حسابنا معًا! (صمت، إزكويردو يهزُّ كتفَيه عند استماعه لصوت إطلاق البنادق) ستة أبرياء قتلوا، أليس كذلك؟ (الطلقة القاضية، صمتٌ مطلق، إزكويردو يتَّجه نحو مونسيرا) قل لي.. (مونسيرا شاحب الوجه ويبذل مجهودًا ليقف على قدمَيه) كنت أعتقد أن حياة الإنسان مُقدَّسة بالنسبة للمسيحي وأن حرية عدة ملايين من الرجال لا يُمكن بأي حال من الأحوال أن تفضل على مصير مخلوقٍ واحد من مخلوقات الله.. (صمت) لا شك أنك سويت أمورك مع ضميرك.

مونسيرا (يبذل مجهودًا ملحوظًا لكن لا يخور): لا شأن لك بما كلَّفني ذلك من عناء!.. يستطيع المرء أن يُضحِّي بأكثر من حياته من أجل تحرير شعب يُحبه ويتعذَّب.

إزكويردو: بشرفه العسكري مثلًا.

مونسيرا: نعم، وبأكثر من شرفه وبأكثر من حياته!

إزكويردو (ساخرًا): بحياة ستة أبرياء ومعهم حياته الأخيرة!

مونسيرا (بمرارة): أنا أعرف أنك لا تخشى الله!

إزكويردو (في هدوء): لا.

مونسيرا (في حماس): ولهذا فأنت أقسى وأحقر مَن رأيت في الوجود!

إزكويردو: إن قتل آلاف المخلوقات، التي صنعها الله من العدم ويُعيدها من جديد إلى العدم، مُحاولة لأن نُصبح نحن أيضًا آلهة! إنها منافسة على أي حال من الأحوال، ولكن لماذا ألوم نفسي على ذلك؟ إني أقتل الناس لكي أُحافظ على مصالح صاحب الجلالة الكاثوليكية التي أدين لها بالولاء والطاعة التامة.. وفي نفس هذه اللحظات يموت في كل بقاع الأرض آلاف الأبرياء، بلا مبررٍ معقول من جراء الحوادث أو الأمراض! أيؤثر هذا عليك كثيرًا؟ لا!

مونسيرا: أنت تكفر! أنت لا تحترم شيئًا!

إزكويردو: على العكس، أنا أحترم الله! لقد اخترع لنا، وهو الخالد، شيئًا عبقريًّا (كما لو كان يُذيع له سرًّا) الزمن! (يروح ويجيء على خشبة المسرح)، ثمَّ يقول: أنا لم أنسَ نفسي يا صغيري! كل ما في الأمر أني سمحت لنفسي ببضع دقائق أثرثر فيها معك، ولكنِّي سأستدعي بعد ذلك مورالس لكي يُحضر لنا ست رهائنَ جديدة!

مونسيرا (ينتفض ثمَّ يقول في هلع): لماذا؟ أنت تعرف أن كل شيء انتهى! وأني أعطيت كل ما في وسعي! وأن لا شيء سيزحزحني عن موقفي! لا داعي لهذه الجرائم الجديدة! فكِّر في الأمر!

إزكويردو (مبتسمًا): عليك أنت أن تُفكِّر.. لقد أثبتَّ لي أنك تستطيع أن تدوس على ضميرك وأن تُضحِّي بست أرواح خلقها الله في مقابل ما تُسمِّيه مصلحة عدة ملايين من أبناء فنزويلا! أليس كذلك؟

مونسيرا (في صوتٍ خفيض): نعم.

إزكويردو: في الحقيقة، أنت قتلت ستة أبرياء دون أن يؤدي موتهم إلى تحرير الملايين من مواطنيهم! لقد ضحَّيت بهم من أجل أمل في التحرير، من أجل مجرد احتمال!.. ألا تجد ذلك بشعًا؟ وبعد ذلك تتهمني بالقسوة والوحشية! أنا.. (يضحك، ويسير جيئة وذهابًا ثمَّ يقف فجأة أمام مونسيرا) أمَّا أنا فضابط في الجيش الملكي! ولديَّ أوامر بالمحافظة بأي ثمن على سلطة صاحب الجلالة على هذا البلد، وكل أبناء فنزويلا الذين يثورون على هذه السلطة مجرمون، أنا لا أؤدي إلَّا واجبي.. أنا لست قاسيًا يا مونسيرا. بل واجبي هو القاسي (يضحك).

مونسيرا (في حماس): والذين عذَّبتهم حتى الموت! والذين قتلتهم بنشر سيقانهم أو صب الرصاص المصهور في أحشائهم! هل كان واجبك يُملي عليك هذه الأعمال الوحشية؟

إزكويردو (ساخرًا): بالطبع! هنا أيضًا أخدم صاحب الجلالة بهذا التعذيب والتنكيل الذي يُرهب الآخرين ويدفعهم إلى الإخلاد للسكينة.

مونسيرا (ثائرًا): أنت مجنون! هذا التفكير لا يُمكن أن يصدر إلَّا من مخيلة مجنون أو سادي.

إزكويردو (مازحًا): أبدًا أبدًا! أنا على العكس صافي النفس! كُفَّ عن سبِّي (يقف أمام مونسيرا) أنا واثق أني أخدم الملك بقتلي هذه الرهائن! قضية الملك تعلو على كل شيء، لا أشعر أبدًا بأي وخز في الضمير، اللهم إلَّا بالنسبة لإيلينا، الأمر بالنسبة لك مختلف. لو أن مصلحة الملايين من أبناء فنزويلا تعلو على أي شيء لكنت محقًّا ولوَجَبت التضحية بحياة ستة من مواطنيهم، ولكن بوليفار مريض، ومن الممكن في هذه الليلة أن تُودي به الحمى التي أُصيبَ بها، ولكن بوليفار مُطارد ويُحتمَل أن يُقبَض عليه الليلة، وحتى إذا وصل إلى بويلبا ولحق بأنصاره فإنه لا يضمن الانتصار علينا، فإذا مات بوليفار إذن أو قُبض عليه أو هُزم فلن تكون فعلتك سوى مهزلةٍ دامية!

مونسيرا: أنا فاهم يا إزكويردو، لقد فكَّرتُ في ذلك منذ وقتٍ قريب وأنا في ظروف تختلف تمامًا، لقد تنازعتني كل هذه الأفكار بقسوة لا أستطيع أن أصفها ولكن ريكاردو صرخ في وجهك: يجب أن ننقذ هذا الأمل بأي ثمن لأنه الأمل الأخير، هذه البلاد غارقة في البشاعة، وقد جثم عليها ليلٌ كئيب منذ احتللناها، ليل يمطر الدم والدموع. أصبحت أستطيع أن أقسو على قلبي وأخنق روحي وأدوس على ضميري لمجرد أمل في انتهاء هذا الليل وبزوغ شمس النهار.

إزكويردو: هذا لا يُمثِّل رأي أغلب الرهائن التي أُعدِمت، كانوا كلهم تقريبًا مقتنعين أنهم اغتيلوا بلا داعٍ! ماذا تريد؟ أغلب الناس بلا كرامة ويوافقون على الحياة العفنة تحت سيطرتنا بدلًا من الموت، يُفضِّلون أن يعيشوا أذلاء تحت أقدامنا على أن يموتوا كِرامًا من أجل الحرية.

مونسيرا: أنت تُفكِّر في إيلينا وريكاردو!

إزكويردو (بدقة): قلت: "أغلب الرهائن..."

مونسيرا: لقد وافقتْ رهينتان من ستة على الموت من أجل هذا الأمل الذي تزدريه، لو احتفظنا بهذه النسبة على نطاق سُكَّان البلد بأسره لكان هذا يعني أن مليونين من سُكَّان هذا البلد الذي يبلغ تعداده ٦ ملايين نسمة، يقبل هذه الميتة؟ ألا يبدو لك هذا رائعًا! هائلًا!

إزكويردو (يتظاهر بالتفكير ثمَّ يُمثِّل): مليونين؟ (لحظة صمت) لا... هذا ليس هائلًا! أؤكد لك أني أحسُّ نفسي قادرًا على إبادة هذين المليونَين من أبناء فنزويلا، المسألة مسألة وقت وصبر ليس إلَّا، يجب أن يوفروا لي ما يكفي من الحبال حتى أقتصد في طلقات الرصاص. لا توجد أي صعوبة سوى هذا الجانب فقط، الحق أني لا أرى غيرها... كما أني أقترح عليك أيضًا الأكواخ الخشبية التي يُمكن إقامتها بسهولة لشيِّ حوالي 150 شخصًا دفعةً واحدة!

مونسيرا: وغد!

إزكويردو: لو كُلِّفت شخصيًّا بسحق التمرد، لاتخذت لنفسي منهجًا في العمل، البند الأول والأخير: "بإعدام كل فنزويلي ذكر من سن الثانية عشرة حتى الخمسين" ثمَّ أُطبِّق هذا القرار حرفيًّا.. ولكنَّك تعرف أن صاحب السعادة مُتسامح جدًّا.

مونسيرا (منزعجًا): من أين ينبع حقدك هذا الذي يجعلك بهذه الوحشية؟

إزكويردو: ستثير والله غروري.. (يتجه نحو الباب ويصيح في الجنود) قولوا لمورالس أن يحضر!

مونسيرا (وقد أحسَّ بالخطر): إزكويردو!

إزكويردو: لا، هذه المرة لن أمنحهم سوى نصف ساعة. الوقت يمر أرجو أن يكون من بينهم أُمًّا أخرى لها أولادٌ صغار.

مونسيرا: لن تفعل ذلك! لن أستطيع! لن أستطيع!

إزكويردو (يقترب منه ويقول له بقسوة): وإذا لم تحثَّك الرهائن الجديدة على الكلام سأعدمهم أمام عينَيك، ثم أحضر ستةً آخرين، ثم ستة آخرين وغيرهم..وغيرهم حتى تُدرك أخيرًا مدى جنونك!

مونسيرا (لاهثًا): لن أستطيع! لن أستطيع!

(يجفف عرقه على وجهه ورقبته بشكلٍ مستمر، إزكويردو يُثبِّت نظره عليه وهو بالقرب منه حتى يكاد يلمسه، ويقول إزكويردو بصوتٍ هادئ بعد لحظة صمت.)

إزكويردو: أهو مُسلَّح؟

مونسيرا (مستسلمًا): نعم.

إزكويردو: أهو وحده؟

مونسيرا (يُحاول أن يمنع نفسه): معه ثلاثة هنود.

إزكويردو: هل هم مسلحون؟

مونسيرا: نعم.

إزكويردو (بعد لحظة صمت يهزُّ رأسه ويقول): قل لي، لقد حدَّثتني عن منزلٍ منعزل.

مونسيرا (متردِّدًا): نعم.

إزكويردو: هل توجد أشجار.. أعشاب؟ هه؟ أم أرض جرداء؟

مونسيرا (مُرغَمًا): أرضٌ جرداء.

إزكويردو: أرضٌ جرداء، حسنًا … وهي على بعد 500 متر من الطريق؟ أي طريق؟ طريق تولولاك؟
لا شكَّ في ذلك.

(مونسيرا يرفع رأسه في بطء وينظر لإزكويردو دون أن ينطق).

إزكويردو: هيَّا قل لي أي طريق؟ لماذا تسكت الآن بعد أن قلت الكثير وإن كان لا يكفي! هه! أي طريق؟

(مونسيرا يستعيد وضعه المستسلم).

إزكويردو (مُلحًّا): مورالس قادم، تعجَّل وإلا فات الأوان، كل الذين سيحضرونهم هنا لن يخرجوا أبدًا.

(مونسيرا يثبت نظره عليه، صمت).