ميلودراما مؤثرة بطلها التمثيل وعنوانها بلاكبيرد

الفيلم الأميركي الجديد يطرق زوايا الموت الرحيم داخل منزل كبير لعائلة من الطبقة الوسطى.

اقتبس الفيلم الأميريكي الجديد "بلاكبيرد" Blackbird من فيلم دنماركي أخرجه قبل خمس سنوات المخرج الدنماركي الكبير بيلليأوغوست الحائز على "السعفة الذهبية" مرتين وعلى الأوسكار.
كان الفيلم الدنماركي أكثر واقعية وصدقا في تصوير موضوعه القاتم الذي يتلاءم كثيرا مع البيئة الدنماركية والمناخ العام القائم في الدنمارك. وكان دون شك متأثرا بفيلم آخر سبقه عن تلك العلاقة بين الانسان والموت الاختياري أو اختيار موت الشريك رحمة به وحبا له، كما رأينا في فيلم "حب" Amour لشيخ المخرجين الأوروبيين مايكل هانيكه.
أما فيلم "بلاكبيرد" (أو الشحرور) الذي أخرجه روجر ميتشيل، فهو يقتبس حرفيا مستندا على نفس السيناريو الذي كتبه الدنماركي كريستيان تورب، فيما يبدو أنه عمل كان قد كتبه أصلا للمسرح.
الموضوع يدور في معظمه داخل منزل كبير لأسرة من الطبقة الوسطى: الأب طبيب، والأم مريضة بمرض عضال، لا أمل في شفائها منه، كما يدرك الزوج جيدا.الموضوع يدور حول فكرة الحب، وكيف يمكن أن يشارك الحبيب في دفع حبيبته إلى الموت من زاوية الرحمة والرغبة في تجنيبها الشعور بالمعاناة والعذاب وفقدان القدرة على الحركة كما اعتادت.
الواضح من البداية أن اتفاقا قد حدث بين الأم والأب والابنتين: الابنة الأولى متزوجة ولديها ابن في عمر المراهقة، والثانية تعاني من تدهور في حالتها النفسية والعقلية، وقد سبق أن أقدمت على الانتحار، وتعيش على العقاقير المضادة للاكتئاب. هذا الاتفاق يقضي بالموافقة على أن يقوم الأب بإعطاء الأم جرعة مضاعفة من العقاقير تكون كفيلة بإرسالها إلى العالم الآخر في هدوء، خلاصا لها من آلامها.

وهذا هو ما يطلق عليه "الموت الرحيم". يأتي الجميع إلى منزل العائلة الكبير في الريف لقضاء عطلة نهاية الأسبوع الأخيرة مع الأم وتوديعها، قبل أن تزف إلى نهايتها مساء الأحد بعد أن يرحل الجميع.
الابنة الكبرى مع زوجها وابنها، والابنة الصغرى مع صديقها الجديد، وهو شاب سطحي غير متعلم ينتمي إلى طبقة أدنى، مدمن على تناول الحشيش، مما يدفع بالابنة الكبرى التي لا تثق في سلامة عقل وتقدير أختها الصغرى، إلى تعنيف هذه الأخيرة على إحضـــاره معها في تلك المناســـبة العائـــلية.
وتحضر أيضا سيدة عجوزهي صديقة الأسرة، وكانت كما سنرى من خلال الصور الفوتوغرافية، ترافق الأسرة منذ سنوات بعيدة، في كل الرحلات التي تقوم بها إلى خارج البلاد.
ما الذي يمكن أن يدور خلال عطلة "نهاية الأسبوع" في ظروف كهذه؟ ما الذي سيكتشف من أسرار، وما هي الشكوك التي ستندلع بين الجميع؟ وكيف ستتعامل الأم المريضة مع أفراد العائلة قبيل رحيلها؟ وهل قرار الأسرة صائب؟ وماذا لو كان الأب -كطبيب- قد أخطأ التقدير؟ وماذا لو كان الأب على علاقة سابقة قديمة بتلك المرأة الأخرى؟ خاصة بعد أن شاهدته الابنة الكبرى يقبلها ليلا.
وهل من الممكن التراجع عن هذا القرار الصعب بإرسال الأم إلى موتها؟ خاصة وأن من بين الشروط الأساسية لتنفيذ الخطة موافقة جميع أفراد الأسرة كبارا وصغارا واقتناعهم بذلك. وكما أن "بلاكبيرد" فيلم عن الموت فهو أيضا فيلم عن الحياة، كيف نحياها وكيف يجب أن نتخلص من صراعاتنا الصغيرة ونقضي على المعاناة ونعيش حياة سوية نقية لا يشوبها العنف أو الكراهية. هذه الرسالة تكمن تحت جلد الدراما وتصل في الجزء الأخير من الفيلم الى الميلودراما التي تفجر الدموع، ولكنها دموع اكتشاف أنفسنا وما نفعله بأنفسنا دون ان ندري ما الذي يخبؤه لنا القدر.

سوزان ساراندون تتألق في دور الأم
سوزان ساراندون تتألق في دور الأم

هناك الكثير من المشاعر والأحاسيس والبكاء والشكوك والهواجس تسيطر على الجميع، تخفف منها فقط حماقة ذلك الشاب الفوضوي، وحماس الأم ورغبتها في أن تحيا ولو لسويعات قليلة تشعر بالسعادة وسط أبنائها، تجرب ما لم تجربه في حياتها من قبل، ولو كان ذلك يتمثل في تدخين الحشيش، والرقص على نغمات أغنية قديمة من الماضي، وتناول كعكة أعياد الميلاد قبل الرحيل.
الابنة الصغرى تبدو أكثر ارتباطا بأمها، وبعد أن تمضي معها ساعة أو بضع ساعة، تضعف وتعاند وترفض أن تسمح بذلك الموت المقدر سلفا، مشككة في حسن تقدير والدها ودقة تشخصيه، فربما يكون أمام الأم بضعة أشهر، فها هي تراها تمرح وترقص معهم جميعا وتباشر بنفسها الإشراف على إعداد وتقديم طعام العشاء لهم، فلِمَ لا نتركها تعيش ونستمتع بصحبتها أطول وقت ممكن؟
الابنة الكبرى من ناحيتها ترفض تماما هذا المنطق، بل وتبدو وكأنها تريد الخلاص من الأم في أقرب وقت، غير أنها سرعان ما تتراجع وتتشكك وتقول لأختها إنها الآن فقط تتفق معها في رفض الانصياع لإرادة الأم، بعد أن أصبحت تشك في علاقة والدها بتلك المرأة الأخرى المتواجدة معهم، وهو ما ينفي عن موقفه النزاهة، بل قد يكون له مأرب ذاتي. وتقع المواجهة الحتمية مع الأب، ولكن الأم تتدخل بعد أن تتصاعد الاتهامات، وتصارحهما بالحقيقة، وهي أنها هي التي أوصت صديقتها بأن ترعى زوجها وتـتخذه رفيقا لها بعد وفاتها المرتقبة. (ومن أفضل من أعز صديقاتي لكي تصبح رفيقة لأعز من أحببت أي زوجي)؟

الابنة الصغرى مع الأب
الابنة الصغرى مع الأب

لكن الأمور لا تسير كما هو مخطط لها بل وتكاد تخرج تماما عن المسار عندما تقرر الابنتان أنها ترغبان في قضاء وقت أطول مع أمهما، وانه لابد من وقف هذه العملية، بل وتهدد الابنة الكبرى أيضا بالاتصال بالشرطة لمنع وقوع حادث (انتحار)إلا أن الأم ترفض وتتشبث، بل وتترجى ابنتيها أن تسمحا لها بالانصراف في هدوء، فهي لم تعد ترغب في أن تواصل الحياة هكذا، إلى أن يفاجئها الموت المحتوم دون أن تكون مستعدة لاستقباله.
معظم مشاهد الفيلم تدور في الداخل، تحت إضاءة خافتة، وبين جنبات المنزل الكبير، ومع هيمنة اللونين الرمادي والأصفر على المشاهد.. ورغم قتامة الموضوع عموما، إلاّ أن هناك الكثير من اللحظات التيتكسر الطابع الحزين وتشيع روح المرح في الفيلم من خلال الغناء الجماعي والرقص بحيث يمكن القول إن فيلمنا هذا ينتمي الى الميلودراما الكوميدية أو التراجيكوميك.. وهو يغالي بعض الشئ في إضفاء روح المرح على الكثير من المشاهد أكثر مما شاهدنا في الفيلم الدنماركي. 
تبرز في الفيلم علاقة واضحة خافتة بين الأجيال الثلاثة: جيل الآباءوالأبناء والأحفاد، وكيف تنتقل المعرفة والخبرة من الجيل القديم للجيل الجديد، وكيف يصبح رمز الجيل الجديد أي الحفيد، هو رمز المستقبل الذي لابد ان يكون مختلفا وأكثر قوة وقدرة على المواجهة: مواجهة الزمن والواقع، فهو الجيل الذي يمتلك ناصية التكنولوجيا الجديدة كما نرى في الفيلم.
الاعتماد الأكبر في هذا الفيلم على عنصر التمثيل، فأبرز ما فيه هو أداء مجموعة الممثلين التي تم اختيارها بعناية كبيرة من بين نجوم التمثيل المشاهير بحيث بدا أننا أمام مباراة مقصودة لجذب انتباه المشاهدين بين مجموعة الممثلين تتقدمهم سوزان ساراندون في دور الأم، ثم كيت ونسليت في دور الابنة الكبرى، ثم ميا واسيكوفسكا في دور الابنة الصغرى، وسام نيل في دور الزوج. 
في النهاية تنتهي الأم إلى مصيرها المنتظر والمقدر سلفا، ويرحل الجميع كما جاؤوا، ولكن هل ستبقى النفوس على ما كانت عليه قبل تلك المواجهة، مع الذات ومع الآخر، ومع الموت.