نزار قباني بين يمين الشعر ويساره

اليمينيون في الشعر هم تلك الفئة التي لا تزال ترى في "المعلقة" وفي "القصيدة العصماء" ذورة الكمال الأدبي.
اليسار يقرأ التاريخ، ولكن يرفض أن يبتلعه ضريح التاريخ
الشاعر العربي هو صياد مصادفات من الطراز الأول
نثرك مثل شعرك لا بد من مصادرته
معادلات موسيقية جديدة للشعر العربي

تنكسر جميع الأقلام التي تكتب ألوانا من النثر، حينما يلجأ الشاعر إلى كتابة هذا اللون من ألوان الأدب. فما بالك إذا كان هذا الكاتب هو شاعر عرف بإناقة اللفظ وبالكلمة المرسومة من نجوم وأقراط وحلي؟ ما بالك إذا كان هذا الكاتب هو الشاعر نزار  قباني، فنزار قباني أخرج من كتب النثر عدة كتب، نذكر منها: الشعر قنديل أخضر، وقصتي مع الشعر، والكتابة عمل انقلابي وغيرها.
أما عن كتاب "الشعر قنديل أخضر" فقد أرخ له الشاعر في مقدمته بتاريخ 1 / 1 / 1963، والكتاب يضم بالإضافة إلى مجموعة من الأشعار المنثورة تحت عنوان "مذكرات أندلسية"، العديد من قضايا الشعر التي وإن مضى عليها فترة من الزمن، فإنها لم تزل تشغل بال الشعراء والنقاد حتى الآن، خاصة تلك القضية التي أسماها الشاعر "معركة اليمين واليسار في شعرنا العربي"، وقبل أن نخوض في جولتنا مع هذا الكتاب، وما فجره الشاعر من قضايا، نقف قليلا على أبواب مقدمة الكتاب، حيث يطلعنا الشاعر على السر الذي من أجله لجأ إلى كتابة قضاياه هذه، والسر الذي من أجله حدد موقفه تجاه قضايا الشعر بصفة عامة، فالأصدقاء الطيبون تركوا لنا ورقة صغيرة تقول: "نثرك مثل شعرك لا بد من مصادرته". ومن هنا كان رضاه أن تصادر أعماله النثرية أيضا.
"هذا هو القنديل الذي صودر في حجرتي أقدمه للقراء كما هو، بزجاجته الصفراء، وشعلته النحيلة، وعينه الخضراء، أقدمه لهم ويدي على قلبي".
وها نحن نتجول معا على أضواء هذا القنديل الأخضر، علّه يهدينا إلى شيء ما في هذا العالم الهائل .. عالم الشعر.

الشعر العربي الحديث يخوض بكل طاقاته وأعصابه تجربة كبرى في التجديد، فلنمنحه الفرصة لإثبات وجوده

بعد "مذكرات أندلسية" يجاهرنا الشاعر بآرائه وبموقفه في "معركة اليسار واليمين في شعرنا العربي"، حيث يكون اليمينيون في الشعر - من وجهة نظره – هم "تلك الفئة التي لا تزال ترى في "المعلقة" وفي "القصيدة العصماء" ذورة الكمال الأدبي، وغاية الغايات، وحيث إن القصيدة لديهم هي ذلك الوعاء التاريخي الذي يتسع لكل ما يسكب فيه، والثوب الجاهز لكل القامات وكل الهامات، وهي لديهم قدر محتوم لا نملك له دفعا ولا ردا. وحيث إن اليمين في الشعر العربي المعاصر هو الجانب الوقور الهادئ الذي يؤمن بقداسة القديم، ويقيم له الطقوس ويحرق له البخور، وهو الجانب الذي ارتبط ذهنيا ونفسيا ووراثيا بنماذج من القول والتعبير، يعتبرها نهائية وصالحة لكل زمان ومكان، ويرفض أي تعديل لها أو مساس بها.
أما عن اليسار واليساريين فهو جيل مفتوح الرئتين للهواء النظيف، مبهور بالتيارات الفكرية الجديدة التي تهب عليه من كل مكان فتعلمه أن يثور وأن يرفض وأن يحفر بأظافره قدرا جديدا، إنه جيل يقرأ التاريخ، ولكن يرفض أن يبتلعه ضريح التاريخ".
إن احتكاك اليمين باليسار – من وجهة نظر الشاعر نزار قباني – هو أمر حتمي في كل مجتمع صحيح البنية ومعافى، وهو على حق في قوله هذا، فالمجتمع المريض وحده هو الذي لا تشتبك كرياته الحمراء والبيضاء في صراع شريف من أجل الحقيقة.
وفي حديث نزار قباني عن اليمين واليسار بهذا الشكل، يتطرق إلى هندسة القصيدة العربية، حيث إن اليسار يعتقد أن القصيدة التقليدية كما وردتنا بأغراضها المعروفة وأبياتها الملتصقة ببعضها البعض التصاقا صنيعا كقطع الفسيفساء هي إلى الزخرفة والنقش أقرب منها إلى العمل الأدبي المتماسك الملتحم كقطعة النسيج. وحيث إن أسلوب بناء القصيدة التقليدية يشابه بناء القلاع في القرون الوسطى .. مرمر .. رخام .. شموخ أعمدة .. الخ، أما القصيدة الحديثة فهي أشبه بديكور حجرة صغيرة وزعت مقاعدها ولوحاتها وأوانيها بشكل ربما لا يوحي بالثراء الفاحش، ولكنه يوحي بالدفء والألفة. وحيث إن هندسة القصيدة التقليدية هندسة مسطحة تعتمد على الخطوط الأفقية وعلى التقابل والتناظر في حين أن هندسة القصيدة الأوروبية هندسة فراغية تعتمد على البعد الثالث، حيث إن البيت في القصيدة الأوروبية ليس عالما قائما بذاته، كما في القصيدة العربية" بل إنه "خلية حية تعيش بين مجموعة خلايا في كيان عضوي واحد، لذلك كان حذف بيت في القصيدة الأوروبية معناه تعطيل خلية عن أداء وظيفتها.
أما بالنسبة لتخطيط القصيدة العربية، فيرى قباني أن القصيدة العربية ليس لها مخطط، والشاعر العربي هو صياد مصادفات من الطراز الأول، فهو ينتقل من وصف سيفه إلى ثغر حبيبته، ما دامت القافية مواتية والمنبر مريحا، فكل موضوع هو موضوعه، وكل ميدان هو فارسه. وفي هذه النقطة بالذات يرى الشاعر أن اليمين يتفوق على اليسار، أو هكذا يخيل إلينا، فالفخامة والجزالة وتساقط الحروف العربية وتكسرها يحقق لها نجاحا منبريا أكيدا لأن جمهورنا ورث مع ما ورث غريزة التطريب، وحسه الموسيقي مرتبط تاريخيا بالآلات ذات الوتر الواحد، وبالأدوار الشرقية التي تعتمد على تكرار النغمة الواحدة بشكل دوري.
أما الشاعر العربي الحديث فهو لا يحاول استعمال طريقة التخدير الموضعي هذه، ولا يلجأ إليها حيث إن اللغة لديه ليست غاية بحد ذاتها، ولكنها مفاتيح إلى عوالم أرحب، وأبعد، وقيمة الحروف تكون بقدر ما تثيره حولها من رؤى وظلال وما تبعثه من إيحاءات، وحيث إن البناء الموسيقي في قصيدة الشاعر الحديث مركب من فلذات نغمية تعلو وتخفت وتصطدم وتفترق وترق وتقسو وتهدأ وتنفعل، ويتولد من هذه الحركة الدائمة لذرات القصيدة موسيقى داخلية هي إلى البناء السيمفوني أقرب منها إلى دقات الساعة الرتيبة.

Poetry
الشعر هو كلمة السر

أما بالنسبة للقافية، فإن اليسار لا يطالب أبدا بإلغاء الأثواب الفضفاضة في شعرنا لأنه يعرف أن التخلي عن أثوابنا القديمة معناه العري الأدبي التام، ولكنه يطالب بتعديل هذه الأثواب بشكل يجعلها عصرية وعملية ومريحة، لكننا نرى أن اليسار– بالنسبة للقافية – قطع شوطا طويلا في خطوات قصيرة بالتخلي عن كثير من القافية، بل أن هناك ما يسمى بالقافية السائبة – كما تسميها نازك الملائكة في كتابها "قضايا الشعر المعاصر".
وتحت عنوان "معادلات موسيقية جديدة للشعر العربي" يقول نزار قباني إن الشعر هندسة حروف وأصوات نعمر بها في نفوس الآخرين عالما يشابه عالمنا الداخلي، والشعراء مهندسون، لكل واحد منهم طريقته في بناء الحروف وتعميرها، وأن "هندسة القصيدة – أي وضع سلمها الموسيقي – عمل مرتبط أعمق الارتباط بحرية الشاعر ومهارته ومعرفته بكيمياء اللفظة، وأن بحور الشعر العربي الستة عشر بتعدد قراراتها وتفاوت نغماتها هي ثروة موسيقية ثمينة بين أيدينا، وبإمكاننا أن نتخذها نقطة انطلاق لكتابة معادلات موسيقية جديدة في شعرنا.
ويمضي في هذا ويقول: لقد تجاوزنا مرحلة "ربابة الراعي" بإيقاعها البدائي البسيط إلى مرحلة البناء الموسيقي المتداخل، وانتهت في حياتنا مرحلة "القصيدة العصماء" بأبياتها المئة، وأن الشعر الحديث يسمع بالعين، أي أنه موسيقى مقروءة، وهذا دليل على دخوله مرحلة التحضر.
أما بالنسبة للغة الشعر واليسار واليمين، فإن الشاعر يقول: إن اليمين متعصب للغة "الأغاني" و"العقد الفريد" ولديه البلاغة والفصاحة مفهوم لا يقبل أن يتزحزح عنه، لذلك فهو ينظر باستخفاف إلى كل إنتاج جديد، ويعتبره مثالا للضعف والركاكة. أما اليسار فهو يؤمن بأن لغة الحديث اليومي بكل حرارتها وزخمها وتوترها هي لغة الشعر، وأن الكلمة الشعرية هي الكلمة التي تعيش بيننا .. في بيوتنا .. وحوانيتنا .. ومقاهينا، لا الكلمة المدفونة في إحشاء القاموس.
وليس معنى ذلك الهبوط بهذه اللغة إلى ظلمات الأزقة ومستنقع العامية، بل كل ما نطلبه أن يكون شعرنا في المرحلة الثقافية التي نحن فيها صورة لهذه الثقافة وانعكاساتها. وهذه اللغة جزء من شفاهنا .. من حناجرنا .. من كتبنا .. من جرائدنا .. من رسائلنا. إنها اللغة التي نحب بها .. ونضحك بها .. ونبكي بها .. ونمشط شعر حبيباتنا بها.
أما بالنسبة لمحتوى القصيدة العربية الحديثة، فنتيجة للتقدم الحضاري الهائل والسريع، ولأن العلم الحديث جعل سفر الأشخاص والأفكار بين قارة وقارة، وكوكب وكوكب، نزهة يومية لا تثير الدهشة، لذلك لم يعد بوسع أي أدب أن ينعزل بين جدران إقليمية ضعيفة، أي أنه في وسط هذه الحضارة الحديثة يبحث الشعر العربي عن نفسه، فهو مفتوح العينين على الأبعاد الإنسانية الرحبة.
وفي رأي نزار قباني أن أزمة العبث والعدم واللاجدوى، هي أزمة نفسية مستوردة، لها ما يفسرها في الحضارة الأوروبية المتعبة، أما نحن فقد نقلناها بدون تحفظ ودون أن يكون في حياتنا ما يبررها، ذلك أن الإنسان العربي له أزماته الخاصة، أزمات واقعية تتصل بالرغيف وبالدواء وبالعلم وبسرطان إسرائيل، أكثر مما تتصل بالمجردات الفلسفية التي لا تلتفت إليها الشعوب إلا وهي في قمة شبعها.
ولكنه على الرغم من ذلك فإن نزار يقول: لا ينبعي أن نهمل تجربة ت. س.  إليوت الذي ترك بصماته على شعراء العراق ومصر الذين نقلوا عنه طريقته - هو وأزراباوند - في كتابة الشعر الحر، وفي استعمال الأساطير والرموز الدينية والتاريخية، والاعتماد على طريقة التداعي بالصور. ويقرر نزار قباني أن نتائج هذه التجربة الإليوتية في شعرنا كانت حسنة بمجملها.
ويرى الشاعر أن الشعر العربي الحديث يخوض بكل طاقاته وأعصابه تجربة كبرى في التجديد، فلنمنحه الفرصة لإثبات وجوده. لقد كتب نزار هذه الجملة عام 1962، وأعتقد أن الشعر الحديث بالفعل أثبت وجوده بعد مرور أكثر من سبعين عاما على تجربته، وأن الجماهير العربية قد تعودت على هذا اللون الجديد من الشعر، حتى بعد أن رحلت أو سكتت بعض الأصوات التي كانت رائدة لهذه التجربة من أمثال: صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي وبدر شاكر السياب ونازك الملائكة.