نزوح لبنان الرئاسي

يكمل لبنان عاما من دون رئيس. مشهد تعود عليه اللبنانيون.

لم يعد هناك ادنى شك بخروج انتخابات الرئاسة اللبنانية من يد اللبنانيين. وثمة وقائع ومعطيات استجدت تشير الى نزوح رئاسي لا تحده معطيات تاريخية ولا حدود جغرافية، أي بمعنى من الصعب احتواء تاريخ محدد للإنجاز او التكهن بعدد المتدخلين دولا او فواعل إقليمية او دولية. وعليه ثمة ما يشبه النزوح الذي يلامس فرارا يكرس فراغات قاتلة.

في الماضي القريب عُلقت امال كبيرة على المبادرة الفرنسية في وقت تُرك لها مجالا ودعما إقليميا عربيا ودوليا ومن بينهم اميركيا، لكن سرعان ما تراكمت امام المبادرة عقبات كأداء لا حلول مرنة لها. رغم تعاظم وتراكم اجتماعات اللجنة الخماسية التي تعتبر الداعم الرئيس للمبادرة الفرنسية، الا ان سرعان ما سحب غطاء الدعم وتلاشت الآمال بالمتابعة، واقتصرت متابعات ايف لودريان على زيارات بروتوكولية لم تحمل جديدا قابل للحياة او البناء عليها، ما أتاح لسياق اخر ترأسه احد اعمدة اللحنة الخماسية المتمثل بالمبادرة القطرية على قاعدة الخيار الثالث بعيدا عن الاصطفاف السياسي الذي لم ينتج انتخابا بعد ثلاث عشرة تجربة، وهو سياق بدا خجولا باعتباره قدم مشروعا تبناه البعض حرجا ورفضه البعض الاخر جهرا، وعليه أسست هذه المحاولة نزوحا وهروبا من حل مقترح لا اجماع عليه، ولم يحوز على رضا اغلبية مقبولة.

وفي ظل تداعي بنيان المقترحات والمشاريع غير الناضجة أساسا، تجمعت معطيات إقليمية حذفت لبنان عن قائمة لم يكن لبنان أساسا في أولوية اهتماماتها، ووضعته جانبا بانتظار متغيرات تجري على ارضه لكنه ليس مقررا او فاعلا فيها، لكنها في المقابل ستؤثر مباشرة على الكثير من مفاصل ازماته وطرق الولوج للحل عبرها، ما يعني ان النزوح الرئاسي هذه المرة سيطول كثيرا، ونهاياته مرتبطة لمسارات ووقائع لا احد يمتلك مفاتيح معرفتها او التأثير حتى في بعضها. وهنا تكمن خطورة توصيف هذا الواقع المؤلم الذي لا خروج آمن منه.

والاغرب في استحقاق الانتخاب الرئاسي تنقله ونزوحه من محطة الى أخرى دون ضوابط او محددات منطقية، انما يغلب عليها انزلاقات متسارعة تراكم المخاطر التي تتركها تداعيات تلك الانزلاقات القاتلة، فمعها تترك فراغات في الكثير من المؤسسات الحيوية والمرافق العامة، وتجعل طبيعة ما تبقى من مظاهر الدولة ركاما قاتلا لا فكاك منه الا عبر انتخابات رئاسية تبدو بعيدة المنال حتى الان.

في الماضي القريب ورغم صعوبة المعطيات الانتخابية المتوفرة، شكلت هي ذاتها مدخلا للبقاء ضمن اطار ولو غير منضبط يمكن ان يؤدي الى مخرج ما. اما ما تراكم اليوم من احداث ومعطيات ستشكل ضغوطا قاسية، ستباعد بين ظرف الاستحقاق الانتخابي وما يحيط به من عوامل ذاتية وموضوعية، وستعطي أولوية واضحة ومؤثرة للظروف الموضوعية التي سيكون لها كلمة الفصل في هذا المجال، اذا ظل موضوع الرئاسة قائما او ذات ضرورة ما لحدوثه او اقله تهيئة الأجواء لإنجازه.

هي أيام معدودة وسيكمل لبنان عامه الأول في فراغ رئاسي قاتل تعوّد اللبنانيون على تقبله والعيش في ظله، باعتباره ليس سابقة، فسبق ان مر لبنان بتجارب مماثلة، بعد ولاية الرئيس امين الجميل والرئيس اميل لحود والرئيس ميشال سليمان والرئيس ميشال عون. واليوم تتهيأ الظروف المحلية والإقليمية والدولية لنزوح رئاسي لبناني يتخوف البعض ان لا يجرى بالمطلق، لما يتهيأ للمنطقة من متغيرات في الجغرافيا السياسية والاجتماعية، بعد حفلات الترانسفير واللعب بديموغرافيا جماعات اخذت عقودا من الزمن لتأمين بعض الاستقرار في الاجتماع السياسي لتلك الطوائف والجماعات المتفلتة القيود والانماط أصلا. فهل سيشكل النزوح الرئاسي القادم مزيدا من التفلت والانحلال السياسي والمجتمعي سؤال ليس سهلا الإجابة عليه في ظل هذه الظروف والمعطيات المتفلتة؟