نقاط القوة والضعف في وثيقة الكويت الإصلاحية

لا يكفي انتقاد الفساد في الكويت، أو اقتراح تشكيل حكومة انقاذ. على أصحاب بادرة الإصلاح من اكاديميين وسياسيين التفكير في الحلول أولا.
تسمية حكومة إنقاذ وطني لم ترد في القانون الدولي وليس لها معنى معتبر في العلوم السياسية
نجحت الوثيقة في طرح قضايا تشغل تفكير الشارع من أبرزها الفساد باعتباره كابوسا في حياة كل مواطن
التعاطي مع أية مبادرة اصلاحية يفترض أن يكون وفقا للأفكار والقيم التي تحملها لا الشخصيات التي قدمتها

البادرة المستحقة التي أقدم عليها عدد من الشخصيات الاكاديمية والسياسية قبل أسابيع قليلة والتي عنونت بوثيقة الكويت، والتي تم تقديمها الى القيادة السياسية بالتزامن مع نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، وعلى الرغم من انها لاقت الكثير من الترحيب والانتقاد، إلا انها لم تحظ بما تستحقه من قراءة سياسية، وذلك لجملة من الأسباب:

السبب الاول: ان السياسيون اعتادوا التعبير السريع والمختصر على الاحداث والقضايا منذ تفشي وباء تويتر في الاوساط السياسية والاجتماعية، بحيث وجدنا بعض الوزراء في الحكومة ونواب مجلس الأمة يعبرون عن مواقفهم وآراءهم في تويتر بدلا من قاعة عبدالله السالم، وهذا ما جرى مع الوثيقة، فباستثناء واحد أو اثنين من المقالات المعتبرة، فإن معظم الردود سواء بالتأييد أو الرفض جاءت على شكل تغريدات مختصرة ومخلة، وإعلان مواقف (ضد أو مع) وليس أكثر.

السبب الثاني: تفشي حالة من الاحباط الشديد في الشارع من إمكانية فرص نجاح المبادرات الإصلاحية ومصداقية الدعوة اليها، وخلال السنوات الأخيرة تبنت الكثير من التوجهات والشخصيات السياسية شعار الإصلاح والتغيير ومكافحة الفساد، ولكن انتهت هذه الشخصيات في الغالب إما إلى تصنيفها كجزء من مكينة الفساد، أو صنف موقفها كردة فعل تنتهي بانتهاء فورة الحماس والتفاعل، الامر الذي جعل البعض يشكك في مآل وثيقة الكويت، وأن مصيرها لن يختلف عن سابقاتها.

السبب الثالث: تحديد الموقف من المبادرات والمشاريع بالنظر إلى أشخاص القائمين عليها بدلا من الانشغال بأفكارهم وآراءهم السياسية، فالعرائض والوثائق والمبادرات يجري تقيمها بناء على الموقف المسبق من الأسماء المذيلة في آخرها، والموقف من التكتلات والتجمعات السياسية يتخذ وفقا للانتماء المذهبي والاجتماعي والسياسي لأعضائها، بدلا من الاهتمام بالبرنامج السياسي والرؤية الفكرية التي قدمتها، هذا التصنيف هو ذاته الذي لاقته الوثيقة التي اعتنى الجمهور بالجدل حول من قدمها أكثر من اهتمامهم بما حوته من افكار.

ومن نافلة القول إن الخطوة الاولى في الإصلاح السياسي تتمثل في توفير إجماع وطني حول مطالب الإصلاح، ويعني ذلك:

أولا- ان التعاطي مع أية مبادرة اصلاحية يفترض أن يتجاوز النظرة الضيقة، والحسابات المذهبية والحزبية، والتعاطي معها وفقا للأفكار والقيم التي تحملها بغض النظر عن الشخصيات التي قدمتها، ومن ثم يتم وضع المحددات والمعايير الكفيلة بتمثيل المبادرة لجميع المشاركين فيها دون الغاء أو تهميش لطرف.

ثانيا- ان فشل المبادرات السياسية يعود في الغالب إلى غياب الاجماع الوطني، وهو أمر منطقي إذ لا يمكن أن تلتفت السلطة أو تعطي اعتبارا لمجتمع مفكك سياسيا، وينطبق هذا الادعاء عند الجدل حول اسباب اخفاق الحراك الشعبي، والذي يمكن تلخيصه بفشل القائمين عليه في تحقيق اجماع وطني حول اولويات الاصلاح، وهذا دلالة على نجاح السلطة في تفتيت المجتمع من جهة، وفشل التيارات السياسية في بناء منظومة عمل مشتركة من جهة أخرى.

تحت مجهر النقد

نظرا لأهمية هذه الوثيقة من جهة محتواها وتوقيتها، كان لزاما وضعها تحت مجهر البحث والتحليل بغرض التعرف على مضامينها السياسية، والكشف عن جوانب الضعف والقوة، فقد تضمنت الوثيقة 6 محاور رئيسية وهي: تشكيل حكومة انقاذ وطني، وتفويضها للاستعانة بالجهات اللازمة لكشف الخلل في إدارات الدولة واوجه الفساد، الاتفاق على نظام انتخابي انتقالي يعكس التمثيل الشعبي، الإصلاح الاقتصادي، إصلاح مرفق القضاء، المصالحة الوطنية والعفو الشامل.

يتضمن المحور الاول والثاني مطلبا تكرر على مدى السنوات الأخيرة من عدة جهات وطنية وسياسية، يتلخص في طلب تشكيل "حكومة انقاذ وطني" وتفويضها في عملية الإصلاح السياسي. فقد صرح عضو المكتب السياسي لـلحركة التقدمية الكويتية د. حمد الأنصاري في أغسطس الماضي وقبل تقديم الوثيقة، بأنهم في الحركة التقدمية يرون ضرورة تشكيل حكومة إنقاذ وطني من رجالات دولة وعناصر مشهود لها بالكفاءة والنزاهة والإخلاص لمحاربة الفساد.

وقبيل ذلك في العام 2019 أصدر تجمع المسار المستقل بيانا دعا فيه الى ضرورة تشكيل حكومة انقاذ وطني تنهض بالبلاد وترسخ العمل السياسي القائم على سياسة الفصل بين السلطات، وقبلها بسنوات دعا النائب عبدالرحمن العنجري في 2012 رئيس مجلس الوزراء إلى إجراء تعديل وزاري موسع يضمن اما تشكيل حكومة اغلبية برلمانية او حكومة انقاذ وطني ممثلة لجميع الكتل البرلمانية.

ولكون الإصلاح برنامج عمل وليس مصطلحات أو شعارات فضفاضة، فينبغي أولا تحرير مصطلح "حكومة انقاذ وطني" التي نادت به الوثيقة، وتكرر كثيرا في السنوات الأخيرة عند اغلب دعاة الإصلاح السياسي في الكويت، ومعرفة إن كان له جذر في العلوم السياسية على سبيل المثال؟ أوهل له تطبيقات في الدول المستقرة سياسيا؟ إذ ليس من المقبول أن تُدفع الدولة أو الجمهور إلى تبني أفكار غير واضحة المعالم أو يُجر الناس نحو المجهول.

فأمر الاصلاح بالتأكيد لا يتوقف عند الابداع في استخدام أو استحداث المصطلحات السياسية دون أن يكون هناك وضوح في معناها، علما أن تشكيل حكومة إنقاذ وطني لم يرد في القانون الدولي وليس له معنى معتبر في العلوم السياسية، حيث استخدم المصطلح ابان الثورة الفرنسية في ظل ظروف الثورة والحرب، شكلت على أثرها لجنة الانقاذ العام، وكما ينسب لها إنجازات فلها سجل حافل بالجرائم والابادة الجماعية خارج نطاق القانون.

وهذا المطلب إن قبلناه على ضعفه فهو يستدعي السؤال عن الجهة التي تمتلك الحق بتشكيل حكومة الإنقاذ؟ هل هي جهة من داخل النظام أو من خارجه؟ فإن كانت من الداخل فما هو الفرق حكومة الانقاذ المطلوبة والحكومة التي تتشكل وفقا لدستور 1962؟ وإن كانت من خارجه فمن هي هذه الجهة، ومن أين استمدت الشرعية؟

ومن ناحية أخرى، فإن وصف الدولة بالإرباك والفساد الذي نقر به جميعا، لا يعني العجز عن تشكيل حكومة، فالكويت دولة يحكمها دستور متوافق عليه ومجلس أمة منتخب، وتعتبر من الدول المستقرة سياسيا واقتصاديا، وهي كما غيرها من الدول تحتاج الى إصلاح وتطوير سياسيين دائمين، لكن من المؤكد أنها لا تحتاج إلى تشكيل حكومة خارج نطاق الدستور أو بالانقلاب عليه. ولذا أعتقد أن دعاة الإصلاح السياسي، سواء ممن أعدوا الوثيقة أو غيرهم من المتحمسين، قد وقعوا في مطبات فكرية قد تسمح للدولة بتجاوز الدستور استنادا على دعوتهم.

أعرف بالطبع ان السادة الافاضل الذي استخدموا هذا المصطلح لم يقصدوا الانقلاب على الدستور، بل على العكس من ذلك هم من دعاة العمل بالدستور وعدم الالتفاف عليه، ويتبين ذلك من خلال تعريفهم لدور حكومة الانقاذ الوطني وتحديد مهامها في تقديم برنامج عمل وفق جدول محدد زمنيا، والاستعانة بالجهات اللازمة لهيكلة المؤسسات ومحاربة الفساد.

والحقيقة أنه مع اتفاقنا على تشخيص معدي الوثيقة في حجم الفساد والحاجة للإصلاح، إلا أن ذلك لا يستدعي استيراد مصطلحات لا سند قانونيا أو سياسيا لها، ويكفي الدعوة إلى تفعيل المادة 98 من الدستور والتي تنص على الآتي: "تتقدم كل وزارة فور تشكيلها ببرنامجها إلى مجلس الأمة وللمجلس أن يبدي ما يراه من ملاحظات بصدد هذا البرنامج"، وإلزام الحكومة التقيد بنص المادة وعدم الالتفاف عليها.

كما أنهم غير بعيدين عن الاطلاع على النقاشات التي دارت حول الابعاد السياسية والقانونية لتطبيق هذه المادة، أما الخلل والقصور في تطبيقها، فكما يقع على الحكومة فإنه كذلك يقع على عاتق السادة الافاضل من النواب الذين وصلوا الى عضوية مجلس الامة لكنهم لم يتطرقوا الى هذا الموضوع ولم يكن من ضمن اهتماماتهم الرئيسية خلال الفصول التشريعية المختلفة، على الرغم من أن حسم هذا الملف من شأنه أن يحقق ما يصبوا اليه كل من يدعوا الى حكومة انقاذ وطني وفقا للأطر الدستورية لا بالالتفاف عليها.

إن الخطوة الاولى لإصلاح هذا الخلل يتلخص في قدرة الجمهور على اختيار نواب من العناصر الكفؤة، القادرة على ترتب صفوفها وتنسيق أولوياتها في العمل الإصلاحي، ولا تنساق خلف مساعي كتلة الفساد التي تسعى حثيثا عند انطلاق كل فصل تشريعي لتشتيت الأولويات حتى انقضاء وقت المجلس دون تحقيق أي انجاز نوعي من شأنه أن يطور من التجربة السياسية وينميها.

أين نجحت الوثيقة

نجحت الوثيقة في طرح عدد من القضايا المهمة التي تشغل تفكير الشارع المحلي، ومن أبرزها قضية الفساد التي تحولت إلى كابوس في حياة كل مواطن، فمنذ سنوات طويلة تتحدث الحقائق المجتمعية عن تسلل الفساد إلى كل المفاصل الإدارية في الدولة، مثل التعينات البرشوتية، واستحداث مناصب إدارية عليا تنفيعية، والرواتب المتضخمة لبعض الوظائف على حساب أخرى، وسياسات القبول في بعض المؤسسات لاسيما الأمنية على أسس غير المواطنة المتكافئة، واحتكار المناصب العليا في الدولة لعدد محدود من العوائل واقاربهم من الدرجة الأولى، وغيرها من أوجه الفساد المتعددة.

ومع ضخامة ملف الفساد إلا أنه لم يتوقف عند هذا الحد، فخلال الازمة الاقتصادية التي عصفت بالعالم ومن ضمنها الكويت، بسبب جائحة كرونا، بادرت العديد من الشركات الكبرى والاثرياء في العالم لتقديم يد المساعدة السخية لدولهم وتقديم تسهيلات خدمة لمجتمعاتهم، اما في الكويت فقد صدم الجمهور من حدة الشد والجذب الذي دار بين التجار والدولة لتمرير صفقات مليارية لتضخيم ثروات الطبقة التجارية المتضخمة اصلا، ولم تسجل في المقابل إلا القليل من التبرعات التي لا تليق مع ما قدمته الدولة لهم من تسهيلات ومناقصات وعطاءات مالية خلال سنوات مديدة.

ولذا فإن ما اشارت اليه الوثيقة من ضرورة تحديد مظاهر الخلل والقصور والشبهات في مرافق الدولة عن مظنة الاشتراك أو الإهمال بأعمال الفساد وتتبع خطواتها وتحديد المتورطين فيها، ووضع النظم التي تكفل فعالية وسلامة المؤسسات عن مظنة التورط في مشروعات الفساد، هو محل اتفاق عام، ويتطلب من أصحاب المبادرات الوطنية تقديم الية عمل واضحة لإنجاز هذا المطلب، إذ أن الفساد غول متعمق يكبر ويتمدد وتتعدد أشكاله، ولا يمكن مواجهته بهيئات وادارات مترهلة لمكافحة الفساد، فالتجارب المختلفة أثبتت أن الهيئات قد تكون جزءا من عملية الفساد، وربما تكون رأس الغول الذي يدمر مقدرات البلاد.  

تتزامن خطوات محاربة الفساد مع ما تبنته الوثيقة من ضرورة اصلاح مرفق القضاء بوصفه الجهة الامنة لحفظ الحقوق وضمان تحقيق العدالة، وفقا لتجارب مكافحة الفساد الناجحة فإن جهاز القضاء دوما هو قطب الرحى في هذا الميدان، وفي الدول التي كانت تعاني من قضاء فاسد فإن الخطوة الأولى التي اتخذتها للإصلاح هو تزامن محاربة الفساد مع اصلاح جهاز القضاء، حيث أن تزامن الأمرين يعد ضرورة لنجاح مشروع مكافحة الفساد.

لكن المطالبات وحدها لا تحقق اصلاحا، فمثل هذه المطالبات قد تكرر طرحها كثيرا في السنوات الأخيرة ولم يحدث أي تغيير يذكر، بالنسبة لكثير من افراد الشعب فإن حكومة عجزت عن اصلاح اسفلت الشارع والحصى المتطاير على مدى 10 سنوات مضت، وهو فساد مكشوف، هي أعجز من أن تواجه ملفات الفساد المخفي والمتكون من عشرات بل مئات المناقصات والعقود المليارية التي تعقد في الخفاء؟ ولذا فإن اهل الاختصاص ينتظر منهم الانتقال من الشكوى والتذمر إلى المساهمة في تقديم استراتيجية لمكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة، ولعل ما يؤخذ على وثيقة الكويت أنها اكتفت بالعناوين والتشخيص عن اقتراح الحلول التفصيلية.

طبقا لتصريح الدكتور عبيد الوسمي فإن الوثيقة التي نشرت في مواقع التواصل الاجتماعي هي ورقة مختصرة عن الوثيقة الأساسية التي عرضت على القيادة السياسية، وأن الوثيقة الأساسية تتضمن شرحا مفصلا عن الية تنفيذ المحاور المذكورة آنفا، وفي حال كان للوثيقة شرح مفصل كما أشار الوسمي، وهو المتوقع، فنأمل من المعنيين بها تقديمها للجمهور، والنقاش حولها للالتفاف حول هذه المطالب بوصفها اطارا اوليا للإصلاح والتوافق الوطني.