نكبات فلسطين المتتالية

افتتاح السفارة الأميركية في القدس جرى بنرجسية تفوق الوصف وفي الوقت الذي تجري فيه مجزرة موصوفة أمام مرئى العالم.

سبعون عاما مرت على نكبة فلسطين، تُوجت بنكبة أخرى بضياع قضية القدس مرة أخرى، ذلك بنقل السفارة الأميركية إلى القدس، وما يعني ذلك من تداعيات قانونية وسياسية لا تعد ولا تحصى. ثمة أسباب كثيرة لهذا التراجع في قضايانا المركزية، والسؤال المطروح: كيف يمكن مواجهة ذلك وهل نحن قادرون أصلا على ذلك؟

فقد شكل الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والبدء عمليا في تنفيذ الخطوات، امرأ مأساويا، وسط صمت مطبق وعجز عن المواجهة ولو بالطرق القانونية المتاحة. أولى التداعيات ما حصل من ردود فعل شعبية واجهتها قوات الاحتلال الإسرائيلية بمجزرة موصوفة ذهب ضحيتها 61 شهيدا وأكثر من ألفي جريح، وهي سابقة في المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين لجهة حجم الخسائر في فترة زمنية محددة، وأقل ما يمكن وصفها بالإبادة الجماعية، حيث عمليات القتل تُنقل على الهواء مباشرة، فيما فعاليات الاحتفال بافتتاح السفارة الأميركية تُجرى وسط نرجسية تفوق الوصف. فأركان الجريمة من الناحية القانونية مطابقة لأي تحرك محتمل أمام المحاكم الجنائية الوطنية منها والدولية، وان تكن بعض المعوقات موجودة ويمكن أن تحد من تسارع العملية أو النتائج المحتملة، إلا أن طرق هذه الأبواب أمر مطلوب في إعادة هيكلة الوعي والرأي العام العالميين لما يجري في فلسطين بعامة والقدس بخاصة.  

إن اللجوء إلى المحاكم الوطنية ذات الطابع الجنائي الدولي، أمر متاح في بعض الدول مثل بلجيكا، التي شهدت سوابق مماثلة، وأهميتها تكمن في أمكانية تفادي أي اعتراض في التنفيذ لاحقا، والأمر عينه ينسحب على المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان. فيما الدعاوى التي يمكن أن ترفع أمام المحكمة الجنائية الدولية قائمة أيضا على سبيل المثال عبر أحدى الدول المنضمة لنظامها الأساسي كالأردن مثلا وحتى السلطة الفلسطينية التي أبدت رغبتها لذلك. وإما عبر تحفيز مجلس الأمن على تحريك الدعوى رغم جهوزية الفيتو الأميركي، أو عبر تحفيز مدعي عام المحكمة للتحرك عفوا لتحريك القضية.

طبعا ثمة معوقات سياسية يمكن أن يواجه التحرك، لكن الاحتجاج بذلك ليس مبررا، فمثل هذه القضايا تتطلب حياكة وسائل ضغط دولية، والعرب قادرون على ذلك إذا توفرت الإرادة، لاسيما وأن تفاصيل وأدوات الإبادة التي نفذتها إسرائيل ضد الفلسطينيين واضحة لجهة الأركان القانونية ووسائل مواجهتها والبدء فيها عمليا.

أما فيما يخص الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وسبل مواجهته فثمة بيئة قانونية دولية ممتازة، يمكن المضي عبرها، أبرزها قرار التقسيم 181 والقرارات الدولية ذات الصلة التي صدرت عن مجلس الأمن لاحقا، والتي أكدت على عدم مشروعية ضم إسرائيل للقدس، أو التأكيد على خضوع القدس للوضع الدولي إلى حين التوصل إلى حل نهائي.

إن التدقيق في حفل افتتاح السفارة الأميركية في القدس، يظهر مشهدا يعبر عن انقسام دولي واضح في هذه القضية، ويمكن الدخول من هذا الباب تحديدا، حيث شاركت 33 دولة فقط في المراسم وسط اعتراض أوروبي واضح. فالأمر يتطلب هنا إعادة نظر في كيفية التعامل مع القضايا الإستراتيجية، ومن بينها كيفية صياغة التحالفات السياسية الدولية في عمليات المواجهة. ولنعترف نحن العرب أننا فشلنا في ذلك على مدى سبعين عاما خلت في معالجة هذه القضية تحديدا.

ثمة تداعيات خطيرة أخرى تنتظر القضية الفلسطينية مستقبلا، فقد تقلصت مساحة فلسطين من قرار التقسيم إلى مفاوضات أوسلو، إلى توجيه الضربة القاصمة لوضع القدس. وماذا ننتظر، إن صفقة القرن التي أطلقها الرئيس الأميركي تلوح في الأفق، وثمة تداعيات كارثية قادمة ستطيح بمصطلحات النكسة والنكبة وغيرها من التوصيفات اللغوية التي أطلقت في توصيف الواقع العربي. فعندما احرق المسجد الأقصى في العام 1969 وصفت رئيسة وزراء إسرائيل غولدا مائير رد الفعل العربي والإسلامي على ذلك، بأنها "أمة نائمة". الرد العملي على ذلك يكمن فقط في إعادة فهمنا للواقع، وكيفية إعادة هيكلة التحالفات الدولية للمواجهة وهو أمر افتقدناه للأسف لسبعين عاما خلت.