نهاية عصر الراكب المجاني على الإنترنت


لم تكن شبكة الإنترنت في حقيقة الأمر أرض حرية التصفح المجانية بقدر ماهي لوحة إعلانات ضخمة، كانت شركات التكنولوجيا العملاقة تستدرجنا إليها لحبسنا فيها.
الشركات التكنولوجية العملاقة أذكى من أن تقدم تلك الخدمة مجانا “ومتى لم تكن ذكية”، وكانت تستدرجنا من أجل إيقاعنا في فخ الاشتراك المدفوع

مازالت بعض مقاهي الإنترنت مفتوحة، لكن سؤال أين تلك المقاهي يمتلك أهميته أيضا، فهي على وشك الاندثار تدريجيا، إن لم تندثر في مدن كثيرة أضحت رقمية بامتياز.

قبل ثورة آي فون كانت مقاهي الإنترنت منتشرة وتعرّف عن نفسها بين مقهى وأخرى، إلا أنها اليوم لا تكاد تبدو ظاهرة للعيان. فخدمة الإنترنت صارت في جيوبنا ومحفظاتنا الصغيرة.

ووصل الأمر إلى ما يمكن أن يعرف بـ”الراكب المجاني” إذ صار من السهولة بمكان الحصول على خدمة الإنترنت من المتاجر والمطاعم بعد شيوع خدمة “واي فاي”. وبينما كانت بعض الفنادق تثير الاستهجان بفرض أجور مضافة على النزلاء للحصول على خدمة الاتصال بالإنترنت، كان التساؤل المتهكم حينها أيهما أثمن الماء أم الإنترنت؟ هل يمكن أن تستحصلوا مالا مقابل كل مرة يستحم فيها النزيل في غرفته!

صحيح أن الإنترنت صار شبه مجاني اليوم، لكننا مقبلون على دفع الثمن عندما نصل إلى نهاية التصفح بحرية ونضوب الثروة المجانية التي كانت طعما أقبلنا عليه جميعا. فإن لم ندفع ثمنا من قبل ليس لأننا لم نكن زبائن، بل باعتبارنا منتجين توظفنا الشركات التكنولوجية العملاقة لفائدتها.

ويوما بعد آخر تتحول المواقع إلى استنزاف المستخدمين بفرض التسجيل بمقابل اشتراك شهري حيال كل خدمة تقدمها، فالوقت الذي كان فيه كل شيء مجانيا على الإنترنت صار يضيق أمامنا: البريد الإلكتروني، البرمجيات الحرة، التطبيقات، التخزين السحابي، حفظ الصور، حسابات على مواقع التواصل، محركات البحث… إنها وجبة مجانية ضخمة لا نمل من التهامها طوال الوقت، لذلك عد الإنترنت خدمة هائلة للبشرية، بل هو أشبه بفضاء شاسع للحرية.

واليوم نكتشف أن الشركات التكنولوجية العملاقة أذكى من أن تقدم تلك الخدمة مجانا “ومتى لم تكن ذكية”، وكانت تستدرجنا من أجل إيقاعنا في فخ الاشتراك المدفوع، لتنهي فكرة الوجبة المجانية، تماما مثل المطعم الذي يقدم أطباقه في أول يوم افتتاح له، يقبل عليه الجميع لتذوق الاحتفالية المجانية كي يأتوا في الأيام القادمة لدفع أثمان ما التهموه مجانا بالأمس.

في حقيقة الأمر لم يكن ثمة شيء مجاني في كل الذي كنا نحصل عليه في خدمات الإنترنت، كان هناك ثمن خاص ندفعه، من دون أن نشعر به، في وقت تجمع كل الأبحاث النفسية على أن الناس لا يتصرفون بعقلانية مع الخدمة المجانية التي يحصلون عليها. أو بتعبير سيمون بيت المتخصص في البرمجيات في هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” “إذا كان هناك شيء مجاني، فسنكون مستعدين لدفع ثمنه لاحقا”.

لذلك نكتشف اليوم أن الخدمة المجانية في التصفح والتجوال الرقمي كانت مجرد فترة اختبار من قبل الشركات التكنولوجية لنا جميعا وإن طالت نسبيا. وفشلنا فيها جميعا أيضا، فسعادتنا بالمجاني لن تدوم طويلا، إلا إذا كانت الطموحات الرقمية للبعض متواضعة في استحصال الخدمات التي يعمل عليها أو يتسلى بها.

وإذ لم تكن ثمة وجبة رقمية غير مدفوعة الثمن خلال الزمن الماضي، فإن القادم يخبرنا بأن لا شي مجانيا مستقبلا! فقد بدأ فرض رسوم على ما نحصل عليه، ولم يعد الترحيب مستمرا بالمسافرين على الإنترنت وفق خدمة “الراكب المجاني”!

في كل الذي يحصل، لم يكن المستخدمون وحدهم غير عقلانيين في الإقدام الشره على خدمة الإنترنت، كانت الشركات أيضا تغدق علينا بخدمتها المفتوحة، فالصحف الورقية مثلا لم توزع نسخها المطبوعة مجانا للجمهور، لكنها تعرض للمتصفحين كل محتواها على مواقعها الإلكترونية.

وأحد أهم الأسباب التي جعلت كلمة الخدمة المجانية تبدو مقبولة للشركات، هي الأموال التكنولوجية المتدفقة عليها من جانب آخر.

خذ مثلا إن شركة مايكروسوفت لم تفرض رسوما عند توزيع نظام التشغيل ويندوز 10، لأنها ببساطة كانت تستحصل أموالا من الخدمة التي تلي تحميل المستخدمين لنظام التشغيل الجديد.

اليوم يستعاد الكلام التقليدي عن أهمية المال عندما يتعلق بالإنترنت والخدمة التكنولوجية المصاحبة له، بنفس الذريعة التاريخية التي تنهي الكلام عن الخلاف على الأجور، فعمال البناء لا ينهون يومهم في تشييد المنازل ويعودون أدراجهم قبل استحصال أتعابهم. البيوت لا تبنى بالمجان أيها الراكب المجاني!

هذا يعطينا تفسيرا غريبا عن دوافع القرصنة على الإنترنت، مع أنه لم يكن من الواضح لماذا تكون بعض الخدمات مجانية للمستخدمين بينما لم تكن كذلك الأخرى، مع أن كلتيهما متطابقتان وظيفيا، “تذكر جملة الماء المجاني والإنترنت المدفوع في الفنادق”.

تسوغ ذلك إحدى شركات مكافحة القرصنة بعد أن أصبح “المجاني” هو سعر الإنترنت، بالقول من الطبيعي ألا يقوم المرء بسرقة سيارة، لكن شركات السيارات لا تقدمها للناس مجانا.

مع ذلك يتساءل المستخدمون كيف يتسنى لنا الاستمرار في خدمة واتساب من دون دفع اشتراك أو دعم الجهات المعلنة. ما ليس واضحا بالنسبة إليهم الكيفية التي تكسب بها الشركة المال.

يفسر لنا ذلك المستشار التكنولوجي لهيئة الإذاعة البريطانية بن باكرين بالقول “عندما اشترت شركة فيسبوك واتساب مقابل 19 مليار دولار، فإنها كانت تفكر في استقطاب مليار مستهلك ليتحولوا لاحقا إلى أموال”.

كذلك كانت الشركات التكنولوجية العملاقة تكسب الأموال من منتجاتها الأساسية وليس لسواد عيوننا تسمح لنا بالتمتع ببرمجيات خدمة الإنترنت المجانية، والتي لن تدفع في النهاية أي تكلفة عن استهلاكنا. وهكذا لم يكن الإنترنت في حقيقة الأمر أرض حرية التصفح المجانية بقدر ماهي لوحة إعلانات ضخمة، كانت الشركات التكنولوجية تستدرجنا إليها لحبسنا فيها!

استحوذت تلك الشركات الثرية على بياناتنا الشخصية وتاجرت بانتباهنا وحاجتنا المستمرة لها. خفضت الأسعار للقضاء على المنافسين، وأعادت رفعها بعد احتكارها للفضاء الرقمي.

ولن يكون بعيدا أن يتم استبدال إشارات “مجاني” على مواقع الإنترنت إلى علامة الدولار!